الهوية بمفهومها العام تعني مجموع الخصائص والصفات والقيم والمبادئ التي تتسم بها الكيانات والمنظمات والمجتمعات والأشخاص وتأطر مخرجاتها، وهي تعكس في الوقت نفسه مصادر المعرفة التي شكلت هذه الكيانات ورسمت معالمها، ومن أهم مصادر المعرفة التي تلقي بظلالها على الهوية وتسهم في بنائها وحمايتها الدين والثقافة والعادات والتقاليد والأعراف والحضارة الإنسانية.
وفي المجال الإعلامي تمثل مهنة الإعلام نظاماً معيارياً أفرزته الممارسة القائمة على النموذج والمحاكاة، تتشكل من المسلمات ومخططات التأويل، والقيم والأشكال النموذجية التي تُعد مرجعاً للإعلاميين في بناء هويتهم الإعلامية عبر سياقٍ مكانيٍّ وزمانيٍّ محدداً، ويجددون من خلالها انتماءهم لمجموعتهم المهنية، فتعطي مشروعية لممارستهم.
وبما أن البيئة الإعلامية هي المناخ الزماني والمكاني الحاضن لهذه الممارسة والمساهمة بشكل رئيس في تحديد ملامح الهوية الإعلامية، فقد شهدت البيئة الإعلامية عدة تغيرات نتيجة للتطورات التقنية لعناصرها، من أبرزها:
أ- هدم الحدود التقليدية الفاصلة بين المصدر والوسيلة الإعلامية والجمهور، ويمكن التأكد من هذا الواقع من خلال قيام الكثير من المؤسسات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، والعلمية بإنتاج الأخبار والمعلومات وبثها مباشرة، والاستعانة بالمواطنين الصحفيين لتزويد المؤسسات الإعلامية الكلاسيكية والعريقة، بالصور والأخبار والشهادات، وهو ما يعني أن المواد الإعلامية والإخبارية التي لا تمر عبر قناة وسائل الإعلام التقليدية في تزايد مستمر، وأن انتشارها أصبح يتم بسرعة مذهلة مما يخلق لها شعبية كبرى في ظرف زمني قياسي.
ب- أعاد منطق التفاعلية النظر في ترتيب مكونات العملية الاتصالية، إذ سمح بتبادل أدوار أقطاب الاتصال: المرسل والمتلقي، وغير الرؤية للجمهور، بل أعاد النظر فيه، واستبدله بمفهوم المستخدم، الذي يركز على الفرد أكثر من الحشد، فاهتم به وبثقافته، بعد أن كان الاهتمام مركزاً على الحشد والثقافة الجماهيرية.
ت- غيرت التفاعلية بنية المادة الإعلامية، وبالتالي محتواها، إذ كانت تتوقف، في السابق، على ما يكتبه منتجها سواء كان صحافيّاً أو مدوناً، وبفضلها أصبحت التعليقات التي ترسل للكاتب، والنقاش الذي يعقب المادة الإعلامية مكوناً أساسيّاً من مكوناتها، بل يملك في الكثير من الحالات أهمية أكبر من المادة موضوع التعليق، كما ساهمت الوصلات الخارجية، والإحالات التي تتضمنها مادة الاتصال في تغيير بنيتها. وزادت في أهميتها، ورفعت كفاءة الجمهور في فهمها بشكلٍ أعمق.
ث- شكلت التفاعلية بوابة (الإعلام التشاركي) فالتفاعلية لم تؤد إلى توسيع حلقة النقاش حول المادة الإعلامية، وإثرائها فقط، بل جرّت الجمهور للقيام بدور مزدوج: مستهلك المادة الإعلامية ومنتجها وموزعها، وقضت على التراتبية الكلاسيكية التي كانت تنظم العلاقة بين أطراف العملية الإعلامية، حيث غيرت موقع منتج هذه المادة الذي لم يعد محتكراً لها، ولا العارف الوحيد بموضوعها ورهاناته، وسلحت المتلقي بما يجعله يقف على قدم المساواة مع منتجها لمساهمته النشيطة في إنتاجها.
ج- غير التواؤم (Convergence) الرقميّ وسائل الإعلام تغييراً كبيراً، حيث سمح باندماج الوسائط، وترحيل المحتوى من وسيلة إعلامية جماهيرية إلى أخرى، ويظهر ذلك في إمكانية جمع كل هذه التطبيقات في وسيلة واحدة، وهذا التواؤم الذي يعد سابقة تاريخية في وسائل الإعلام، أثر على المحتوى المتداول، فجمع فيه خصائص الإنتاج الجماهيري، والاستهلاك الفردي الذي يراعي منطق المحتوى الذي يكونه المستخدم بطريقة انتقائية.
تؤكد عدد من الدراسات أن هذه التغيرات الجوهرية شكلت تحدياً أمام ممارسي مهنية الإعلام التقليدي يتطلب إعادة تعريف وتوصيف الفكرة الشائعة المتعلقة بالأخبار، والأشكال الصحفية التي يمكن أن يقوم المواطن بجمعها أو تحريرها دون وساطة من وسائل الإعلام، كما ينبغي على الصحافة التقليدية أن تعيد تعريف الدور الذي تضطلع به وكيفية القيام به، خصوصاً مع فقدانها بعض قدراتها الرقابية نتيجة ظهور صحافة المواطن.
ويشير جليمور (Gillmor) إلى أن مشاركة المواطن الصحفي تعمل على تقديم معظم جوانب تطوير العمل الإعلامي من خلال تعزيز نشر الأخبار والآراء عبر شبكات التواصل الاجتماعي، حيث يتم تقديم ملايين الكلمات في الثانية الواحدة بما يفوق قدرة أي وسيلة إعلامية أخرى على إتمام عملية الاتصال، كما يقدم المواطنون الصحفيون لقطات مصورة لمتابعة الأحداث في جميع أنحاء العالم بدون انتظار لوصول المصورين المحترفين، وهو ما يبدو بوضوح في الخدمات الرائعة التي تقدمها البيئة الرقمية، ومن ثم تعمل مساهمة المواطن بصورة رئيسة على دعم وتطوير العمل الصحفي.
كما تعد المشاركة الفعالة في الشؤون العامة بالمجتمع واحدة من أبرز الخصائص المستمرة التي تمتعت بها صحافة المواطن منذ ظهورها وذلك نظراً لدرجة المصارحة التي تتمتع بها أثناء جمع المعلومات ونشرها بدون الرضوخ لضغوط المعلنين، وتعد تلك المعلومات بمنزلة تزويد المواطنين بالقدرة على متابعة ما يحدث في المجتمع لكي يتمكن من المشاركة وفهم الشؤون العامة في البيئة المحيطة وبدرجة تفوق ما تقوم به الصحافة الورقية.
وقد ركزت الدراسات الحديثة التي تناولت البيئة الرقمية على ثلاثة محاور رئيسة مثلت المفاصل الرئيسة في متغيرات الممارسة المهنية في هذه البيئة، وهي:
1. التغير في طبيعة الأدوار المهنية للصحفيين المحترفين والمواطنين الصحفيين.
2. التنوع على المستوى الإخباري، والمصادر في المواقع الخاصة بصحافة المواطن ومواقع المؤسسات الصحفية على شبكة الإنترنت.
3. تحليل المحتوى المقدم من قبل المستخدمين وعلاقته بالبيئة الرقمية، وتأثيراته على الأداء.
واستناداً إلى ذلك يمكن مراجعة مفهوم المهنة الإعلامية عبر تطوراته التاريخية في ضوء المتغيرات المشكلة له وهو ما يؤكد أن الإعلام يتميز بتاريخ ثريٍّ ومتنوع، ومتجدد، أي أنه غير معياري، فبعد صحافة الرأي التي اتسمت بطابعها النخبوي، وانخراطها النشيط في تأطير الصراع الفكري والسياسي النابع من قناعتها بإمكانية المساهمة في تغيير العالم، ظهرت الصحافة الإخبارية، التي تعد أكثر جماهيرية من صحافة الرأي، لتركز على الأحداث أكثر من الآراء والأفكار إيماناً منها بأن مهمتها تقف عند وصف العالم ونقل أحداثه بدل تغييره. وعلى هذا الأساس تغيرت الخصوصية المهنية والثقافية للصحافة، فبعد سيطرة الكتّاب والمثقفين ورجال السياسة على صحافة الرأي، شرعت الصحف الشعبية في إعادة هيكلة مهنة الصحافة، وأولت الاهتمام للجانب الحرفي والمهني الذي بدأ يتحدد أكثر سواء على مستوى تصنيف مناصب العمل داخل قاعة التحرير، أو تفضيل العمل الميداني.
لقد اتضح، بشكلٍ جليٍّ، أن وسائل الإعلام تتطور، وتتجدد، وتتغير ضمن دينامية تفكيك العمل الصحفي، وإعادة تشكيله على أسسٍ جديدة، ومعاييرٍ مستحدثة، ووفق هوية مغايرة تستند إلى أهدافٍ غير تلك التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر، وأغلب سنوات القرن العشرين، وتبعاً لذلك تغير عبر التاريخ جوهر العمل الصحفي فبعد أن كان الرأي يمثل القيمة المحورية في نشاطها، انتقل إلى الحدث وأصبح في ظل التطور التكنولوجي ممثلاً في الحوار والتعليقات التي تثيرها المواد المنشورة.
ضمن هذه الحركية تجرد الصحافي من بعض الأدوار والوظائف، فلم يعد منتجاً وحيداً للأخبار، وشاهداً فريداً على ما يجري لينقله إلى الجمهور، لقد أصبحت بعض المؤسسات غير الصحفية تنتج الأخبار وتوزعها، وتشرك في ذلك العديد من الأشخاص من خارج مهنة الصحافة، كما أن الصحافي لم يعد المحلل الوحيد للأحداث والمعلق عليها، لقد أصبح رأيه مغموراً وسط جيش من الخبراء والمختصين الذين أصبحت آراؤهم متداولة على نطاق واسع.
وهذا يتطلب رؤية شاملة للعمل الإعلامي في البيئة الرقمية يتجاوز الرؤية التجزيئية التي تهتم بالوسيلة فقط، أو المهنة في حد ذاتها بعيداً عن الخطاب، أو الوظيفة الاجتماعية، أو تعتني بالخطاب الصحفي بمنأى عن تطور المهنة، لكن هذه الرؤية الشاملة، تبدو غير مكتملة رغم صلابة منطقها، إذا لم تأخذ بعين الاعتبار السياق العام لتطور الإعلام المعاصر الذي لا تصنعه التكنولوجيا فقط، رغم أهميتها، بل يتدخل فيها العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.