يشكل الشعر العربي عموماً، والجاهلي منه خاصة، منظومة تتعدى الوظيفة الجمالية التي للشعر كما في ثقافات أخرى، إذ إنه إضافة إلى كونه يسكن الوجدان العربي، فهو يعد شبه دستور ثقافي وتشريعي يعدد مكارم الأخلاق، ويحذر مما يقدح فيها، ويرسم صورة البطل، ومسلك الفضيلة، ويسهم في إرساء قوانين السلم والحرب والحب، كل ذلك في أبيات شعرية، فإن كان لحضارات بعض الأمم فلسفتها، وأوابدها، وكتب قوانينها، فللعرب الشعر الذي يتضمن كل ذلك، وقد اختصر الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك بقوله: إن الشعر علم العرب الذي ليس لهم علم سواه.
إن قراءة الشعر العربي، بما يحمله من تلك النظم الثقافية، ويشكله من خصوصية، لا يمكن أن يحيط بها منهج علمي، أو نظرية نقدية فحسب، لأنك تتعامل مع ظاهرة تتجاوز العلمي، وتتعدى الجمالي، فلا بد للقراءة أن تستعين بأكثر من منهج ونظرية حتى تقترب من المعنى، أو ظلال المعنى التي تسكن النصوص الشعرية، من هنا فلطالما أثار استغرابي بيت الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى الذي يقول فيه:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
سر الاستغراب أن هذا البيت صدر من شاعر عرف بالحكمة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن مناسبة القصيدة التي منها البيت السابق، هي مناسبة يمدح فيه الشاعر رجلين سعيا إلى وقف حرب طاحنة امتدت لسنوات بين قبيلتي عبس وذبيان، فالمقام مقام سلم وهدنة وتطييب نفوس، فلماذا أقر الشاعر الحكيم أن من لا يظلم الناس يظلم؟ وكيف لنا أن نقرأها في سياق السلم الذي وردت فيه؟
إن القراءة الأولية ستكون صادمة للمتلقي، إنها دعوة إلى ظلم الآخر، وإلا فسيحل عليك الظلم، إنها إقرار لشريعة الغاب التي عنوانها (إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب) وهذا يتناقض مع أخلاق القائل ومناسبة القصيدة، على الرغم من أن العصر هو (الجاهلي) إلا أن مكارم الأخلاق كانت حاضرة، ودعاة السلم والصفح لم يكونوا معدومين، ومنهم شاعرنا.
قبل الولوج إلى قراءة البيت، تجدر الإشارة إلى أن ثمة من أصدر حكمه على العقلية العربية، ونفوس أهلها بناء على هذا البيت، وأبيات تشاكله لشعراء آخرين، منهم عمر بن أبي ربيعة، والمتنبي، إذ رأوا أن الظلم متأصل عند العرب، وأن (الظلم من شيم نفوسهم) إلا أن مثل هذا التساهل في إصدار الأحكام من القراءة الأولية فيه شيء من الظلم ذاته، ومن التسرع الذي يجانب الصواب، ويميل إلى إصدار الأحكام وتعميمها، ولربما كان بصورة غائية لها دوافعها!
لو تأملنا حياة الأمم والدول الآفلة والباقية، لرأينا أن الدول التي لم تكن تملك القدرة على (الظلم) لم يكتب لها الديمومة وفرض ذاتها، بل إن القانون ذاته الذي ينظم أمور الدولة وشعبها، إن لم يكن يمتلك القوة على الأخذ على يد الخارجين على القانون، فإن سلمها الاجتماعي سيكون مهدداً، بهكذا مقاربة يمكن فهم بيت زهير بن أبي سلمى آنف الذكر، بأنه ليس دعوة إلى الظلم، بقدر ما هو دعوة إلى امتلاك أسباب القوة والهيبة التي ترد الظلم، وتأخذ على يد الظالم، ولا يرد الظلم سوى جهة تملك قوة تتجاوزه وترده على أعقابه، هكذا يبدو أن زهيراً قد عبر عن القوة.
بهكذا فهم يمكن إسقاط قراءة البيت على حياة الأفراد، فهناك حالات مرت في حياة كثيرين، تجد فيها أن من لم يملك أسباب القوة، ويقصد بها في عصرنا، القوة المعرفية، وقوة الشخصية، فإنه قد يكون عرضة لأشكال من الظلم، تبدأ من التنمر عليه، ولا تنتهي بهضم حقوقه واستحقاقاته، لذلك فإن البيت سيكون منسجماً مع سياقه، وأخلاق قائله، عندما يقرأ على أنه أخذ بأسباب القوة والحصانة، في مواجهة الظلم الذي لا يمكن مواجهته إلا بقوة تفوقه قدرة، وتسمو عليه أخلاقاً، إذ ليس من الضرورة أن تكون القوة والأخلاق متناقضتين.