هذه ثالث مرّة أُنقل فيها من مكان عملي، وأظلّ على سذاجتي أو بلاهتي، كما تقول زوجتي، لا يزداد رصيد معرفتي بالحياة التي تجري من حولي شيئاً.
أحسّ في كلّ مرّة، وحيثما يقذف بي، أني شاذّ عن الجميع، أو أنّي نبتة مزروعة في غير مكانها.
كلّ ما حولي ومن حولي يتبرأ مني، وأتبرأ منه. لماذا؟ من منّا هو الصّواب، ومن منّا هو الخطأ؟
أرضعتني أمي لبناً قالت لي:
- إنه لبن النزاهة.
وهنا كلّ شيء بعيد عن هذا الذي رضعته، وهم يطلقون عليه أسماء كثيرة مختلفة لم أسمع بها من قبل: الشطارة، و(الفهلوة) وتشغيل المخّ، ومن أين تُؤكل الكتف؟ وغير ذلك.
بعد أسبوع فقط من انتقالي إلى هذا المكان البعيد دخل عليّ أحد زملائي في العمل، وقال لي ناصحاً:
- يبدو أنك رجل طيّب..
قلت أستفسر:
- ماذا تقصد؟
قال:
- أنت تقوم بأشياء كثيرة ها هنا بالمجّان..
ولم أفهم، وقلت أستفسر:
- بالمجان؟ ماذا تقصد؟
قال:
- أنت توقّع على أشياء كثيرة، وتمشِّي معاملات بالمجّان.. أعني ببلاش.. فهمتَ؟
قلتُ مستغرباً:
- كيف؟ زدْني فهماً لو سمحت..
قال متذمّراً:
- أقصد أنّ عليك ألا تجيز معاملة إلا بثمن..
استغربتُ وقلتُ:
- ولكني لا أجيز أية معاملة إلا إذا كانت قانونية..
لم يعجبه ما قلت، فقال معقِّباً:
- ليست العبرة في أن تكون قانونيّة أو لا.. ولكنْ..
- ولكن ماذا؟
قال بنفاد صبر:
- أنت صعب المراس.. ولكنك ستتروّض. النظام ها هنا في هذه الدائرة التي تعمل فيها ألا نعمل ببلاش، أي -بصريح العبارة- ألا تجيز إلا معاملة من يدفع، مهما كانت حال هذه المعاملة..
وسكت قليلاً، ثم أضاف وهو يحدجني بنظرة منكِرة:
- أحسب أنك قد فهمت كلامي جيّداً.. إلا إذا كنتَ قادماً من كوكب آخر غير كوكبنا..
وصفق عليّ باب الغرفة، ثمّ خرج مستاءً يغمغم بكلام كثير..
تركني أسبح في بحر من الحيرة. ماذا أفعل يا إلهي؟ لقد بدأت المعركة هنا كذلك. كنت أحسبني ارتحت بانتقالي إلى هذا المكان الجديد.. ولكنْ..
**********
كنت أدقِّق معاملة أحد المراجعين عندما وجدت الزّميل نفسه يقوم من وراء مكتبه القريب من مكتبي، ويندفع نحوي قائلاً:
- المعاملة غير مكتملة.. قلت له ذلك، ولكنه لم يصدّق، أصرّ أن يذهب بها إليك، كأننا نكذب عليه..
وغمزني بعينه غمزة لم أفهم معناها..
قلبت المعاملة بين يديّ، ونظرت في الأوراق والمستندات. كان كلّ شيء نظاميّاً، معاملة قانونيّة لا تشوبها شائبة..
قلت في نفسي:
- لعلّ زميلي لم ينتبه إلى ذلك. وقّعت على المعاملة، فأخذها صاحبها، وانطلق فرحاً لا تسعه الدنيا، يغمرني بسيل من عبارات الدّعاء التي لم أعرف لها سبباً:
-الله يعمِّر بيتك.. الله يفرّج عنك.. الله يصرف عنك أولاد الحرام.. الله.. الله..
نظر إليّ الزّميل نظرة شذراء، ثمّ ضرب بقبضة كفّه على طاولتي ضربة كادت تطيِّر ما عليها من أوراق، ثمّ صاح والشّرر يقدح من عينيه:
- غبيّ.. غبيّ.. أنت لا تفهم أصول الشّغل..
نظرت إليه، لمَ هذه الغضبة المضرية؟ ولكني لم أردّ عليه، فقد كان المكان محتشداً بالمراجعين.
في اليوم الثاني جاءني هذا الزّميل بوجه طلْق. ألقى عليّ التحيّة بمودّة زائدة، ثم قال:
-أعتذر إليك عمّا قلته أمس.. أنت رجل طيّب ولا شكّ..
قلتُ:
- أشكرك..
وأكمل:
- ولكنك تسيء إلينا.. تسيء إلينا جميعاً..
نظرت إليه بدهشة واستغراب، وقلت:
- أسيء إليكم؟ أنا أسيء إليكم؟ أمرك عجيب أيّها الرّجل، ماذا فعلت لكم؟ ولماذا تتحدّث بلسان المجموع؟
قال مبتسماً وهو يضع يده على كتفي:
- يا صديقي العزيز! منذ قدمتَ إلى هنا وأنت تشتغل بلا مقابل، بالمجان، ببلاش، هذا حرام.. وسيعتاد المرجعون على هذا..
قاطعته مستغرباً:
- من قال لك إنني أشتغل بالمجان، إني أتقاضى راتباً في آخر كلّ شهر..
قاطعني:
- هذا أمر آخر.. افهم يا صديقي أنه كان يأتينا -زيادة على الرّاتب الذي نتقاضاه- رزقٌ آخر.. (بخشيش.. حلاوة) وأنت قطعتَه بسذاجتك..
وسكت قليلاً، ثم أكمل:
- فهمتَ؟
وبدأت أفهم، ولكني تجاهلت، وقلت:
- كيف.. اشرحْ لي..
- كنا لا نوقِّع على أية معاملة إلا بمقابل.. كان لنا بابُ رزق فتحه الله لنا، وأنت تسدّه في وجوهنا، فتمشِّي من غير أن تلتفت إلى هذا؟ فهمت؟..
وفرك السبابة والإبهام أمام وجهي:
- توقِّع ببلاش.. ببلاش.. فتّحتَ عيون المراجعين، فلم يعد بعضهم يدفع.. أصبحوا يأتون إليك، بعد أن عرفوا تساهلك وغفلتك.. أشرح لك أكثر؟
لم أعد محتاجاً أن يشرح لي أكثر. عرفت لماذا كنت أُنقل من وظيفتي في كلّ مرّة منذ بدأت العمل..
صعد الدّم إلى رأسي، امتلأت حنقاً، فار في داخلي اللبن الذي رضعته منذ نعومة أظفاري، فصرخت في وجهه بأعلى صوتي:
- انقلعْ من أمامي، أنت رجلٌ مرتشٍ.. أنت تأكل أموال الناس بالحرام.. اتقِ الله يا رجل..
كان المكان محتشداً بالمراجعين، فضاع صوتي في الزحام، ولكن قبل أن يمرّ أسبوع على ذلك صدر قرار من المدير العامّ بنقلي فوراً إلى مكان ناءٍ في أقصى البادية.
خرجت مشيّعاً بسخرية الجميع:
- خلِّ تقواك تنفعك..
أمّا زوجتي التي كانت تنتقل معي كالبدو الرُّحّل من مكان إلى مكان، فقد ساءها الخبر كثيراً، حسبته عناداً وركوب رأس مني:
- رأسك أصلب من رأس تيس.. هذه رابع مرّة تُنقل فيها من عملك، ولا تتعلّم..
قاطعتها:
- أتعلّم ماذا يا امرأة؟
قالت ببراءة:
- حسنَ التعامل مع الناس..
اندفعت أشرح لها، ثم قلت:
- أتريدين أن نأكل الحرام يا امرأة؟ أتريدين أن أتعلّم هذا؟
قالت بصدق:
- أعوذ بالله.. ما قصدتُ.. ولكن..
- ولكن ماذا يا امرأة؟ لا تجعلي الشيطان يجوس في جنبات نفسك.. هما أمران بيِّنان: الحلال والحرام..
دمعت عيناها، وربّتت على كفي بحرارة، ثم مضت تحزم أشياءنا للرحيل وهي تقول:
- الحلال يا زوجي.. وستُفرج..