لو كان لباسم من أمره شيئاً لاختار اسماً آخر منذ عقد من الزمن، بعد أن بدّد ثروته التي ورثها عن أبيه، وأقعده اللهو والمجون على بساط الفقر، ورأى أنّ اسم بائس يليق به أكثر وقد تكالبت عليه الهواجس والهموم، وحاصرته الكوابيس في الحلم والصحو، فاستسلم لعجزه، وانزوى إلى جانب زوجته العليلة وبناته العجاف في ركن مظلم داخل غرفة متهالكة على أطراف المدينة، ولم يعد يدّخر من سنين الترف سوى صور طفولة باذخة لعائلته، وكثير من الذكريات المخجلة بين الغواني مع الأصدقاء في أوكار الرذيلة، فيتفرّس في الوجوه الهاربة من حوله، ويهزّ رأسه بأسى.
يهرب باسم من نظرات زوجته الحارقة، ودموع بناته الواجمات، ومن سياط عتابهنّ المؤلمة، فيشيح بوجهه عنهن خجلاً وندماً، ويغطّي جسده بلحاف حتى أعلى هامته، ويغفو بين الحقائب والصناديق المحشوّة بالأسمال، ولا يكشف وجهه إلا ليشرب جرعة ماء، أو ليشعل سيجارته وينفث مع دخانها ما احتبس في صدره من سموم الندم، وآهات الحسرة، ونظراته الزائغة تُطارد غيمة أمل عابرة لا يستطيع اللحاق بها.
ينتظر الصباح بلهفة ليقف تحت السماء العالية، فيرفع وجهه نحو السماء ويمدّ ذراعيه عالياً، ثمّ يطلق سيلاً من الأدعية التي حفظها عن ظهر قلب، يسأل الله العفو وأنْ يجعل له مخرجاً، فقد تاقت نفسه إلى لحظة فرح وضحكة مجلجلة، ولم يعد يحتمل تلك الابتسامة الصفراء الشاحبة التي يهبها لمن يعطف عليه من المارّة. يختار صخرة غير بعيدة عن غرفته النائية، فيجلس فوقها ويُطلق نظره في الفضاء الممتدّ أمامه كصيّاد يبحث عن طريدة غافلة، فيستعيد الوجوه التي نادمته في ليالي الأنس السالفة، ليبحث عن منقذ شهم يُلقي إليه بطوق نجاة قبل أن يبتلع بحر الضياع أسرته المتعبة.
تخرج زوجة باسم بعده بقليل، وتمضي إلى سوق المدينة لتجلس القرفصاء في ركنها المعتاد على الرصيف، وتغطّي نصف وجهها خَجَلاً وخشية أنْ يراها أحد الأقارب أو الجيران، وبعد أن تلتقط أنفاسها من تعب السير الطويل، تعرض بضاعتها على خرقة تفرشها أمام ركبتيها، وتتفرّس في وجوه المارّة بإمعان تبحث عن ضالّتها لتكيل له الدعاء، وتستعطفه بسيل من الرجاء حتى يرقّ قلبه، فيجود عليها بشراء علبة مناديل صغيرة، أو زجاجة ماء، أو قطعة سكاكر، لتعود إلى بناتها بشيء يُفرحهنّ، أو طعام يمنحهنّ بعض القوّة ليلعبنَ كبقية الصغار.
في المساء.. يهبط باسم من عليائه إلى وكر همومه، فينتبذ ركناً مظلماً، ويجلس على قارعة الذل يدسّ وجهه بين ركبتيه، وسحابة داكنة من الحزن الثقيل تُظلّل جسده، فينتفض ألماً قبل أن تفيض عيناه بسيل من الدموع، وحين يرفع رأسه ليمسح وجنتيه، يجد حواليه بعض النقود المتناثرة، فيلتقطها بيدين مرتجفتين كالقابض على الجمر، ويصرّها بخرقة قبل أن يدسّها في جيبه، ثمّ ينهض على عجل، ويمشي بخطى متعثّرة يُثقلها الخِزي والخوف. وفي طريقه إلى البيت يطلّ على سنين عمره الأربعين التي ذهبتْ أدراج الفوضى في غفلة منه، فيرى روحه تشيخ عاماً كلّ يوم، فيقتفي آثار حزنه يبحث عن بصيص فرح يعيد البسمة التي سرقها من أفواه بناته، فينتفض جسده الهزيل، ويقسم بأغلظ الإيمان أن يجد لهنّ نافذة تطلّ على شاطئ السعادة التي افتقدنها منذ ولادتهنَّ، وأنْ يقدّم لزوجته الصابرة باقة سعادة مرصّعة بالحنان.
قرّر باسم أن يتوارى خلف أسوار العزلة، ويحرق ثواني الانتظار على جمر الحروف الملتهبة، فنبش أحد صناديقه المنسيّة يبحث عن كتاب يدفن بين سطوره الأفكار السوداء، والهمسات اللاذعة التي تتناثر حوله من الأقارب والأصدقاء الذين انفضّوا من حوله، وحين وجد ضالّته في كتاب للتبريزي، راح يُقلّب صفحاته وهو يذرع محبسه الاختياري جيئة وذهاباً، فاستوقفته عبارات لامست شغاف قلبه فقرأها مرّات ومرّات، وردّدها بصوتٍ عالٍ دون أن يشعر: «لكلّ ليلٍ قمر، حتى ذلك الليل الذي بأعماقك.. في لحظة ما وبومضة من الزمن، قد يتغيّر كلّ الذي تظنّه لن يتغير، وسيأتي يوم تفرح فيه وكأنك لَم تَحمل الهمّ يوماً».
قال باسم يطمئِن نفسه: لا أظنّ أنّ مثل هذا الحكيم يسخر من آلام الناس بوعودٍ كاذبة، فالأخطاء القاتلة تحتاج إلى التوبة، والبحث عن العلاج الشافي من نوبات الندم، وصمت طويلاً قبل أن يسأل نفسه: ولكن.. إلى متى يمكنني أن أكتم وجعي، وأحتمل عذاباً لا طاقة لي به؟!، فقد أضعتُ سنوات طويلة من عمري خلف قضبان العجز والحسرات، حتى حالَ اليأس بيني وبين ضفاف الأمل التي تشرق الشمس فوقها طوال النهار، ويؤنس ضوء القمر وحشتها في الليالي الداكنة. وأقسم باسم بأن يقتفي آثار جلجامش إلى أعماق الماء السحيقة، ولن يطفو قبل أن يقطف عُشبة السعادة لأسرته، وما مضى سيبقى في طيّات الأمس.
منذ وقت طويل لم يرَ باسم غيوم الكآبة تتدافع أمام نافذة غرفته الصغيرة، وتلوّح له بودادٍ قبل أن تمضي في فضائها مسرعة إلى مكان آخر. استبشر خيراً، وراح يُقلّب دفتر الذكريات في رأسه يبحث عن منقذ بين وجوه أضاعها في أزقّة الماضي، وقبل مشرق الشمس بقليل، خُيّل إليه أنه سَمِعَ صرير أبواب الفرج، فنهض خفيفاً كالريشة وصاح كطفلٍ مشاغب: وجدتها.. وجدتها، وخرج من غرفته إلى حيث لا يدري، فالتقط غصناً يابساً وراح يخربش به الأرض، وكأنما يمحو آثار أقدامه كي لا يعود إلى ذات الطريق مرّة أخرى، وكي لا يعرف الخوف طريقاً إلى قلبه إن باغته اليأس وهو أعزل.
كان الليل يلملم فلول ظلمته الأخيرة، والمحال التجارية لم تفتح أبوابها بعد، ولا أحد يسير في الشوارع سواه، ولم يأبه لهذا السكون الصاخب بضجيج الأمل، فرأى أن يقتل الوقت بقراءة الأوراق الملصقة على الجدران وأعمدة الكهرباء، لعلّه يعثر على فرحه المنتظر عند اكتمال الضياء، فوقع بصره صدفة على ورقة نعي لم يجف صمغها، وكان المتوفّى والد صديقه الأثير غسّان، وسيُدفن ظهر اليوم، فرأى أن يحظر مراسم العزاء وفاءً لصديقه المهاجر إلى خارج البلاد.
مضى الوقت بطيئاً حتى حلّ موعد العزاء، وحين وصل إلى بيت المتوفّى كانت دهشته لا توصف حين رأى صديقه في استقبال المعزّين، فحار باسم وتلعثم في تقديم العزاء، واختلطتْ مشاعره، إذ اشتهى أن يضمّ صديقه، ويعرف أخباره. وبعد أن انفضّ المعزّون، جلس غسان في خلوة مع أصدقاء الأمس، وتبادل الحديث معهم سائلاً عن أحوالهم، ولم يَغفلْ عن رثاثة صديقه باسم الأنيق، ولا عن تجاهُل الأصدقاء له وتجنّبهم الحديث معه، فانتظر خروج الجميع ليطلب من صديقه باسم تفسيراً لما رأى، فأخبره بكلّ ما فاته منذ غيابه. وفي اليوم التالي، التقى غسان بباسم ليبلغه البشارة، وقد طلب منه أن يتولّى إدارة أعمال والده المتوفّى ريثما يعود بعد أنْ ينهي عمله في الخارج، وسيكون مطمئنّاً على أرزاق أهله بيدٍ أمينة، و.. قاطعه باسم سائلاً:
- وما الذي يجعلك واثقاً بقدرتي على حماية رزقكم وقد فشلتُ في حماية رزقي؟!
أجابه غسّان: لأنّ طوافك بين القهر والذل، لا ريب أنه قد علّمك درساً لن تنساه ما حييت.
- وما هو جزائي إن فشلت في مهمّتي؟
ردّ غسّان بهدوء: عندها.. ستكون أنت الخصم والحكم، وستُغلِظ لنفسك العقاب.
ولأوّل مرّة منذ سنين، قهقه باسم بضحكة مجلجلة، وضمّ صديقه بقوّة، وقال وهو ينشج كطفل:
أعِدك بأنني سأفعل «ما لم يستطعه الأوائل».