دخل مدير مكتبي مهرولاً، وبيده ورقة لا يزال يقرأ فيها، ثم رأيته يقف أمامي قائلاً:
أكيد فيه حاجة غلط!
اعتدلت على الكرسي، وتركت جريدة الصباح من يدي فوق المكتب، ونظرت ناحيته متأملاً:
خيراً.. خيراً!
سكت ولم يرد، وحتى أعفيه من الحرج قلت مشجعاً: هات ما عندك.
ناولني الورقة، قرأت سريعاً، وابتسمت قائلاً: استدعاء للتحقيق عادي.. نحن في ثورة.
وأضفت مستفهماً: وهل عندك في إدارتنا ما نخاف منه؟!
***
استمر المحقق يتكلم بمقدمة طويلة، وعيت منها كلمات متناثرة عن: الشفافية، والثورة، وضرورة مكافحة الفساد.
وأضاف: إن الواجب عليه أن يحقق في كل ورقة تصله، حتى لو كانت ورقة رميت من تحت باب مكتبه المغلق هذا.
وأشار بإصبعه ناحية الباب، ثم أكد: نحن في ثورة يا أستاذ!
اعتدلت جالساً فوق مقعدي أمامه، وقلت معقباً بعد مقدمته الطويلة:
معك كل الحق، الذين شاركوا في الثورة لا بد أن يتم التحقيق معهم أولاً، من منطلق الشفافية.
رجع بكرسيه للوراء، ورفع نظارته فوق أوراقه مبتسماً: وهل سيادتك شاركت في الثورة؟
فتحت حسابي على الفيسبوك وناولته تليفوني المحمول على صورتي، وأنا أرفع علم مصر في الاعتصام وسط ميدان التحرير، وبإيجاز شرحت تفاصيل الاعتصام والشعارات التي رددتها مع المتظاهرين.. وأضفت:
ولم أترك ميدان التحرير إلا بعد أن سمعت بأذني: خطاب التنحي وتسليم أمور البلاد للجيش.
ابتسم قائلاً: لقد سهلت دوري بالتحقيق في الشكوى المقدمة ضدك..
وأضاف: أنت متهم بالوصول إلى منصبك بالتحايل والحصول عليه دون وجه حق.
فتحت حقيبتي قائلاً: الحمد لله، لا أزال أحتفظ بالجريدة التي نشرت إعلان المسابقة..
وقدمت الجريدة مطويةً ومبرزاً صورة الإعلان الكبير، وأضفت شارحاً:
إعلان الوظيفة أمامك من حكومة الثورة، وليس من حكومة العهد البائد، وتقدمت للمسابقة على الوظيفة في مكتب وزير الثورة، وبعد خمسة أشهر حضرت اختبار القيادات، وكان يرأس الاختبار وزير الثورة ومعه سبعة من قيادات الوزارة، وبعد شهر ظهرت النتيجة، وكنت الأول على تسعة مرشحين، وأصدر وزير الثورة قراره بتعييني مديراً عاماً.
نظر المحقق بالأوراق بين يديه، قرأ وهو يعدل نظارته على وجهه: في الشكوى طعن على شهادتك الجامعية..
أجبت مؤكداً: عليك بمخاطبة الكلية للتأكد من أصل الشهادة الجامعية التي صورتها بين يديك.
رفع نظارته فوق الأوراق المبعثرة بين يديه، وقال غاضباً:
أعرف عملي جيداً، وسوف أخاطب الكلية رسمياً..
وأضاف: لكن من منطلق الشفافية الثورية، سأضطر لوقفك عن العمل كإجراء احترازي.
سريعاً أجبته: هل ممكن أرفع عنك الحرج، وأتقدم بإجازة دون مرتب؟!
وأضفت شارحاً ومؤكداً: كما تعرف الخطابات والمراسلات بالوزارة تسير بسرعة السلحفاة، هل تتصور أنني أرسل خطاباً لرئيسي المباشر وبيني وبينه مئتي متر؟! والخطاب يصله في أسبوعين، والرد يصلني بعد أسبوعين، شهر كامل حتى يصل الرد، هل أتسلم خطاب الكلية وأذهب بنفسي لتسليمه واستلام الرد؟!
نحن في ثورة، والظروف تفرض اتخاذ القرارات الثورية التي تتحرر من قوانين الروتين البائدة.
اعتدل منتشياً ليملأ كرسيه، بعد سماع جملة: اتخاذ القرارات الثورية.
* * *
في مكتب شؤون الطلاب سلمت الخطاب لموظف الأرشيف، وبعد خمس دقائق كنت أجلس بين يدي مدير شؤون الطلاب الذي أجاب غاضباً: هل يشككون في شهادة رسمية موثقة بتاريخ اجتماع مجلس الكلية، وتوقيع عميد الكلية، ومصدق عليها بتاريخ اجتماع مجلس الجامعة، وتوقيع رئيس الجامعة، ومختومة بختم النسر؟!
وأعلنها قويةً مدويةً في وجهي: نحن جامعة حكومية، ثلاثة أيام وتأتي لاستلام الرد، وتضعه في عين المتشككين!
* * *
بالموعد كنت أجلس بين يدي مدير شؤون الطلاب الذي سحب كلامه الشجاع، وراح يتلعثم بالرد، ورأيت يده ترتعش، وتنفلت الأوراق من بين يديه، رأيته يبلع ريقه وهو ينظر بعيداً ناحية شباك مكتبه، يقول متردداً وكأن واحداً غيره يتكلم:
كما تعرف نحن في ثورة، ولا بد من التدقيق والتمحيص لاستجلاء وجه الحقيقة من منطلق الشفافية الثورية، لقد رفعت الموضوع لمكتب وكيل الكلية لشؤون الطلاب، وسيأتي الرد بعد شهر إن شاء الله.
* * *
بعد شهر، كان مدير شؤون الطلاب يقرأ الأوراق المبعثرة بين يديه، يقرب ورقةً من نظارته كثيراً، ثم يقول:
عندك مادة من مواد السنة الثانية نتيجتها ليست واضحة، أيام الثورة كما تعرف الكهرباء تقطع كثيراً، فقاموا بتصوير صفحة نتيجتك بكاميرا التليفون المحمول.
جلست أمامه قائلاً: هل ممكن أطالع نتيجتي المثبتة عندك بأوراق الكنترول؟!
قرأت مؤكداً وفرحاً: يا سعادة المدير العام النتيجة أمامك واضحة، نتيجة المادة: جيد جداً..
يرد المدير متردداً: كما تعرف حرف الجيم قريب قوي من حرف الضاد، لقد قرأتها: ضعيف جداً..
رحت أشرح للمدير منفعلاً: إن عدد حروف (جيد) ثلاثة، بينما عدد (ضعيف) أربعة، وحتى لو تم التصوير في عتمة الكنترول، فكلمة (جيد) مختلفة تماماً عن كلمة (ضعيف).
تأملت وجه المدير الذي رأيته يهتز يميناً ويساراً كبندول الساعة، ليرفض كلامي، ويعيد قراءة الأوراق المبعثرة بين يديه أكثر من ثلاث مرات، ثم يقربها أكثر من نظارته، والأوراق تسّاقط من يده المرتعشة، وسمعته يكلم نفسه:
لعنة الله على الكتابة بخط اليد، هي تقرأ (جيد)، لا.. لا.. وأيضاً تقرأ (ضعيف).
بقرار حاسم كتبت في ورقة على مكتب مدير شؤون الطلاب، وبتاريخ الأول من أكتوبر عام 2012:
السيد عميد كلية الآداب بعد التحية..
أتقدم لكم بطلبي هذا، من منطلق الشفافية، أن أتقدم للامتحان في هذه المادة مرة أخرى، والله الموفق والمستعان.
المدهش أن عميد الكلية وقع بالموافقة على طلبي بالتقدم لامتحان السنة الثانية، لكن في جميع المواد.
* * *
وجدتني أضحك وبصوت عالٍ، وأنا أتناول طعام الغداء مع أولادي، الذين ينظرون ناحيتي في دهشة وتعجب:
هل ستذاكر يا بابا مرة أخرى؟!
أجبت ساخراً وسخرية مريرة تملأ الحلق:
وما الذي يدهشكم؟! كأنني أسلي نفسي طيلة الإجازة وأحسّن مجموعي مثل الثانوية العامة.
الأشد دهشة وعجباً أنني وجدت بعد إعلان النتيجة تأشيرة عميد الكلية: ناجح ومنقول للسنة الثالثة.
ذهبت لوكالة البلح واشتريت بعض البنطلونات والقمصان وأكثر من جاكيت، لتناسب مرحلة الدراسة الجامعية مرة أخرى.
ووجدتني ذات صباح رائق أقف أمام شباك شؤون الطلاب بكلية الآداب أطلب الالتحاق بقسم اللغة الإنجليزية، في جامعة ثانية، وأردد: ما أحلى الرجوع للكتب عندما نختار الدراسة والمذاكرة.
والأيام والشهور والسنوات تمر سريعاً.
ومن ناحية أخرى أستثمر سنوات الإجازة من منطلق الشفافية الثورية، والعلم نور، والمعرفة حجة وبرهان، وسنة بعد سنة كنت أذاكر لأحسن درجاتي بقسم اللغة العربية بجامعتي، وأتابع محاضراتي لدراسة اللغة الإنجليزية بالجامعة الثانية.
* * *
وبعد خمس سنوات وجدتني أقف معجباً ومزهواً أمام دولاب صغير صنعه النجار خصيصاً حتى أحفظ شهادات التقدير بالتفوق طيلة سنوات الدراسة، لدرجة أن الجامعة منحتني أكثر من خمس شهادات تقدير، ووصلتني شهادة موقعة من الأمين العام للأمم المتحدة كأحد الخبراء الإستراتيجيين الذين نظّروا للثورة وشاركوا بأحداثها حتى خطاب التنحي، وبجوارها في صدر الدولاب وسط الصالون المذهب، وضعت ثلاث شهادات أصلية ممهورة بخاتم شعار الجمهورية:
الأولى شهادة الليسانس في الآداب قسم اللغة العربية عام 1985.
والثانية شهادة الليسانس في الآداب قسم اللغة العربية عام 2015، (تحسين مجموع/ من منطلق الشفافية الثورية).
والثالثة شهادة الليسانس في الآداب قسم اللغة الإنجليزية عام 2016.
ووجدتني أقف أمام دولاب الشهادات، وسط ميدان صالة الشقة، أهتف منتشياً وبصوت عالٍ:
تحيا الثورة.. وعاشت الشفافية الثورية.