مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

عظام فيل الماموث.. من اكتشافات الجغرافيين العرب

تطالعنا بين الحين والآخر اكتشافات جديدة صدفةً في مجال (علم الأحافير Paleontology) في التراث العلمي العربي، والسبب في ذلك أنه لم ينل حقّه من الدراسة العلمية الجادة. مع أن هذا التراث حافل بالمعلومات العلمية الغزيرة التي تحتاج لمن يستخلصها وينظمها.
فقد أشار الشيخ الرئيس ابن سينا (توفي 428هـ/ 1037م) في كتابه (الشفاء) إلى العمليات التي تتشكل فيها الحفريات Fossilization وتكلم أبو الريحان البيروني (توفي 440هـ/ 1048م) في كتابه (تحديد نهايات الأماكن في تصحيح مسافات المساكن) عن الأسماك المتحجرة، كما تناول زكريا بن محمد بن محمود القزويني (توفي 682هـ/ 1283م) في كتابه (عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات) العلاقة بين الأحافير والتتابع الطبقي والتزامن فيما بينهما.
وسنسلط الضوء في هذا المقال على إضافةٍ مهمة لسجل الاكتشافات العربية في علم الأحافير، ألا وهي اكتشاف عظام فيل المَامُوث Mammoth التي أشار إليها الجغرافي الأندلسي أبو حامد الغرناطي.

وقفة اصطلاحية
قد لا يعلم الكثير ممن يتكلمون لغة الضاد أن أصل اسم (الماموث) قد اشتق من الكلمة العربية البَهْمُوث Behemoth (التي تشير لكل مخلوقٍ ضخم وهائل الحجم)، وعندما وصل التجار العرب (بين القرنين التاسع والعاشر للميلاد) إلى شمال آسيا ورؤوا البقايا العملاقة لحيوان مجهول العظام والأسنان أطلقوا عليه اسم البَهْمُوث.
وقد تبنى التتار المقيمون هناك الكلمة بشكل طبيعي، معتقدين أنها اسم مناسب، لكن بعد تحويرها، فتحول اللفظ العربي (البَهْمُوث) إلى (مهموت Mehemot). وقد أوضح الجغرافي الألماني فيليب جوهان فون ستراهلينبيرغ (توفي 1747م) Philip Johan von Strahlenberg أن كلمة (مهموت) تُستخدم أحياناً لوصف شيء كبير. وعندما وصل الروس إلى سيبيريا، تعلموا هذا الاسم من التتار وأطلقوه على (الماموث).
أما انتشار لفظ (الماموث Mammoth) لأوروبا الغربية فله قصة أخرى. ففي عام 1666م، قام هولندي مثقف، يدعى كورنيليوس ويتزن (توفي 1717م) Cornelius Witzen، الذي أصبح عمدة مدينة أمستردام فيما بعد؛ بزيارة موسكو. ومن خلال المواد المتوافرة التي جمعها هناك، ومن مصادر أخرى مختلفة، قام بتجميع عمل مشهور بعنوان (شمال وشرق تارتاري) (Noord en Oost Tartarye)، حيث ظهرت الطبعة الأولى منه عام 1694م. وفي هذا العمل، ظهر (اسم الماموث Mammoth) لأول مرة في أوروبا الغربية، مأخوذاً عن الروسية.
ما هو فيل الماموث؟
الماموث حيوان شبيه بالفيل الهندي، عاش في فترة عصور ما قبل التاريخ. كان يبلغ ارتفاعه نحو (4.30 متر)، وله نابان طويلان ومقوسان يبلغ طولهما نحو (2.4 متر). كان لبعض أنواعه فرو يحميه من برودة الجو، والبعض الآخر ليس له فرو. وقد تجول في حقبة العصر الجليدي الرابع على شكل قطعان في أوروبا، ووصل إلى سيبيريا، حيث عثر على بعض مستحاثاته كما هي محفوظة بالجليد.
عظام فيل الماموث لدى الحضارات القديمة
لا شك أن الحضارات القديمة على امتدادها وتنوعها قد عرفت عظام الماموث، وكل منها فسّرها حسب معتقداته وأساطيره، لأنهم لم يكونوا على معرفة أن نوع هذا المخلوق (ماموث)، كما نعرفه نحن الآن. فعندما رأى اليونانيون بقايا الأحافير العملاقة اعتقدوا أنهم اكتشفوا ساحات القتال التي هزمت فيها الآلهة الجبابرة. وعندما اكتشف الصينيون عاج الماموث المدفون اعتقدوا أنهم عثروا على أسنان التنانين، واستخدموها في الطب والعلاج. وعندما وجد الأمريكيون الأصليون على طول نهر أوهايو هياكل عظمية كاملة في ينابيع الملح؛ كانوا يعتقدون أنها بقايا أسلاف الحيوانات الحديثة. وعندما وجد سكان سيبيريا الشمالية جثثاً دموية تتآكل على ضفاف الأنهار، كانوا يعتقدون أنهم عثروا على بقايا نافقة حديثة العهد لمخلوقات عملاقة تشبه الخلد.
لذلك لا يمكننا نسبة اكتشاف الماموث إلى حضارة معينة أو شخص بعينه، فربما شاهده الجميع أو اقتنى شيئاً مصنوعاً من عظامه دون أن يعلم. د
من هو أبو حامد الغرناطي؟
هو محمد بن عبدالرحيم بن سليمان بن ربيع القيسي الملقب بأبي حامد الغرناطي، الرحالة والمغامر الذي جاب الآفاق شرقاً وغرباً. فقد وصل إلى بلاد مجهولة الأحوال والألسن، وخاض تجارب، واستكشف من عجائب الدنيا ما لم يصل إليه غيره. فهو جغرافي دقيق الملاحظة، حاد الذكاء، كان يدفعه فضوله لمحاولة تجربة أي شيء وكل شيء يقع عليه بصره، بعدها كان يوثّق انطباعه عن ذلك.
ولد أبو حامد في غرناطة الأندلس سنة (473هـ/ 1080-1081م)، وقد غادر مسقط رأسه دون عودة حوالي سنة 500هـ/ 1106-1107م، وهو ابن سبعةٍ وعشرين ربيعاً، حيث طاف بلاد المغرب الأقصى. إذ بدأ بمدينة سجلماسة الشهيرة، ثم توجه لتونس، ثم قصد الإسكندرية، وزار منارتها، ثم زار القاهرة في مصر، وبغداد في العراق، وأبهر في إيران، ثم توجه نحو بحر قزوين حتى وصل إلى نهر الفولغا، ثم توجه إلى خوارزم، وبلاد البلغار (روسيا اليوم) شمال أوروبا، بعدها عاد للموصل فبغداد، واستقر به الترحال في دمشق، حيث توفي فيها عام (565هـ/ 1170م). لقد بقي أبو حامد الغرناطي في حالة الترحال هذه حتى بلغ التسعين سنة، سجل لنا خلالها كل ما وصله من عجائب وغرائب، وذلك في كتابه الشهير (تحفة الألباب ونخبة الإعجاب).
اكتشاف أبي حامد الغرناطي
أشار أبو حامد الغرناطي لاكتشافه عظام الماموث لدى قيامه بالترحال نحو شمال أوروبا نحو بلاد البلغار الباردة جداً التي وصلها في عام 545هـ/ 1150م. وكلمة البلغار تطلق على الشعب والدولة والعاصمة التي تقع على الضفة اليسرى لنهر الفولغا والتي لا تزال أطلال آثارها باقية إلى اليوم على مقربة من مدينة قازان (عاصمة جمهورية تتارستان وإحدى كبريات المدن الروسية)؛ على بُعد 6 كم من شاطئ الفولغا الأيسر، وقد خربت بعد زيارات الجغرافيين العرب لها، حيث عُثر على آثار بلغار بالقرب من مدينة سيميرسيك (أوليانوفسك) Simirsk الحالية التي تبعد عن العاصمة موسكو 890 كيلومتراً.
وقد وجد أبو حامد أنّ (طول النهار ببلغار يبلغ عشرين ساعة، وليلهم يبقى أربع ساعات، وإذا قصر نهارهم يعكس ذلك. والبرد عندهم شديد جداً لا يكاد الثلج ينقطع عن أرضهم صيفاً وشتاء).
هذه البلاد كانت تبلغ فيها درجات الحرارة انخفاضاً إلى درجة يتجمد فيها نهر الفولغا نفسه، وحتى التربة، وقد توفي لأبي حامد نفسه -كما قال- ولد، فلم يستطع أن يدفنه من شدة تصلب التربة من البرودة، وإنما انتظر ثلاثة أشهر حتى ارتفعت درجة الحرارة قليلاً. فقد عاش الغرناطي هناك عدة سنوات.
وقد نقل زكريا بن محمد بن محمود القزويني (توفي 682هـ/ 1283م)، عن أبي حامد نصاً صريحاً واضحاً بأنه عثر على بقايا عظام تعود لحيوانٍ مجهول بحسب معلوماته في عصره.
قال أبو حامد: (وتوجد تحت الأرض أسنان مثل أنياب الفيلة بيض كالثلج، ثقيلة في الواحدة منها مئتا منٍّ، لا يُدْرَى لأي حيوان هي، فلعلها سن دوابهم تحمل إلى خوارزم).
وقد كان وزن الناب الواحد الذي شاهده أبو حامد 200 منٍّ (93 كيلوجراماً)، في حين تبلغ تقديرات القياسات الحديثة لأكبر الأنياب المكتشفة للماموث (91 كيلوجراماً)، وهي قيمة كما نلاحظ قريبة جداً من القيمة التي قدّرها أبو حامد. لكن ليس واضحاً من وصف أبي حامد هل كان الماموث الذي شاهده من النوع الذي له شعر -والذي يُعرف بالماموث الصوفي- أم لا. ويبدو أنه عرف أن هذه الأنياب تعود لحيوان، ربما كان حياً.
ثم يخبرنا كيف أن الناس يستخدمون هذه الأنياب لصناعة أمشاط وعلب (حِقاق) وغيرها من الحاجيات والأغراض، حيث قال: (ويُشترى من تلك الأسنان في خوارزم -أوزبكستان حالياً- بثمن جيد، تتخذ منها الأمشاط والحقاق وغيرهما، كما تتخذ من العاج، بل هي أقوى من العاج لا تنكسر البتة).
وقد أكّد بعض الجغرافيين صحة كلام الغرناطي عندما أشاروا إلى نوعية البضائع التي كانوا يشترونها من بلاد البلغار. فقد ذكر الجغرافي شمس الدين المقدسي البشاري (توفي نحو 380هـ/ نحو 990م) أنه كانت تأتيهم (أسنان السمك)، ونعلم أن بلاد البلغار تقع على نهر الفولغا، وبالتالي فإن أسماكها النهرية ليس لها أسنان، كما هو حال أسماك القرش مثلاً، وإنما كان يُقصد بها العاج المنتشر هناك، وكان مصطلح (أسنان السمك) المصطلح البديل الذي كان شائعاً حينها. وقد أشار البيروني إلى أن هذا العاج الذي يحضره تجار بلاد البلغار كان يستخدم في صنع السكاكين والخناجر تحديداً نظراً لصلابته ومتانته.
إذاً، تعدّ إشارة الجغرافي العربي أبي حامد الغرناطي لعظام فيل الماموث منذ القرن (6هـ/ 13م)؛ إسهاماً علمياً مهماً في تاريخ علم الأحافير والتاريخ الطبيعي، إذْ حاول تفسير وجودها ونسبتها إلى مخلوق مجهول الهوية، في حين كان يسود في أوروبا -في الوقت نفسه- نمط من التفكير الغيبي، فقد كانوا ينظرون إلى هذه الأحافير على أنها مخلوقات تعرّضت لغضب الله فمسخها حجراً، أو أنها بقايا الكائنات الحية التي تعرضت لطوفان نوح (عليه السلام). وقد يفسّر لنا هذا تأخر دراسة عظام الماموث علمياً حتى القرن الثامن عشر للميلاد، في عام 1722م، حيث جرى تصنيفه وتحديد نوعه.
نأمل بهذا المقال أن تتوجه أنظار الزملاء الباحثين في مجال علم الأحافير إلى مراجعة التراث الجغرافي العربي بشكل خاص، وإجراء مسح دقيق له حتى نصل إلى رؤية كاملة عن النظريات العلمية والمستحاثات التي عثر عليها العلماء العرب (سواء أكانت بقايا متحجرة أم عضوية)، وبالتالي نتعرف على الحيوانات التي كانت تعيش في الماضي.

ذو صلة