مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

محركات البحث.. وأزمة الثقة

(ليس لأنني ضد الجديد، كما أنني لست عدواً لما أجهل، ولكن هناك أزمة ثقة بيني وبينه). هكذا بدأ أحد الكتّاب مقالته بتلك الكلمات التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار، خصوصاً لمن أَلِفَ الكتاب والمتن والهامش وثبت المصادر والمراجع في كتاباته، وهو الآن يعيش مع محركات البحث، مثل: (جوجل) خاصة، ويحاول أن يتفاعل معها عندما يبحث في موضوع ما وتضطره موضوعاته للعودة إليها، خصوصاً إذا كان بعيداً عن مكان ألفه (الكتاب والمكتبة).
إن محركات البحث تحوي معلومات ولا شك في ذلك، ولكنها مبعثرة، ومتعددة، ومتلونة، وكتّابها متعددون ومتلونون، ويحملون وجهات مختلفة، ودرجات مختلفة، فمنهم الكاتب، والكويتب، والطالب، والعالم، بل وحتى الجاهل. إنها ميدان مفتوح لأي أحد، ثقافتهم تدل على عقولهم، ووجهات نظرهم ترشدك للرأي حولهم، وفي النتيجة النهائية لا نستطيع الحكم عليهم، لأن ما يرد عنهم -وفي معظم أحواله- غير موثوق لاختلاط الشوائب بالصافي من القول وكلها بلا سند وبلا قوة علمية لتجعلك تدرك منطلقها ومؤداها والغاية منها. إنها بحق ثقافة مبعثرة، وليست كثقافة العقول (الرمز) الكتاب والمكتبات، وهنا ظهرت أزمة الثقة تلك التي تمثل القسم الثاني من العنوان.
إن علماً بلا ثقة ليس علماً، بل هراء، وكلاماً بلا سند، مجرد ادّعاء.
إن أزمة الثقة طرأت من كل ذلك، على أن هذه الأزمة ليست عند فرد دون آخر، بل كل من مسك القلم وتعود على الكتاب الذي يمثل العقل الصامت، كما أن لكل عصر أزماته ومشكلاته. فأزمة الثقة تختلف من عصر لآخر، وحسب معطياته. لقد تحدث (جوفر حدّاد) في مقالة له بعنوان (أزمة الثقة) وقد نُشرت في مجلة (هنا لندن) ذات العدد 326 السنة 16، كانون الأول (ديسمبر) 1975، ص 15 عن أزمة الثقة بين البشر تلك التي تحلى بها عصره لدرجة أن الإنسان لا يثق حتى بنفسه وقد حذّر منها في آخر المقالة، بينما نحن في عصرنا هذا نتحدث عن (أزمة ثقة) من نوع آخر، وقد طرأت بحكم ما طرأ من وسائل جديدة في عصرنا مع ظهور ثورة الاتصالات ووسائل التواصل الجديدة، ولعل أخطر ما فيها (محركات البحث) التي قد تؤثر على مجريات بحوثنا ووقوفنا عند سطحيات معينة بلا سند وبلا ثقة.
فرق بين عطاء عقول معروفة، وعطاء عقول مبعثرة.
وفرق بين ثقافة ثقة، وثقافة ميدان مفتوح لمن هبّ ودبّ.
إنني أدعو الباحثين، خصوصاً من ينشد العلم بجد، أن يأخذ معلومته من مصدر ثقة، ولا ينجرف إلى الكثير من الادعاءات التي تقول: بدلاً من خبير آتي لمجموعة خبراء أبوابهم مفتوحة في أي حين.
إن هؤلاء ليسوا خبراء، بل مجموعة من الذّواقة، يكتبون في مواقع احتفلت بها محركات البحث التي تمثل الثقافة الشمولية، لا العلمية الرصينة.

ذو صلة