مجلة شهرية - العدد (583)  | أبريل 2025 م- شوال 1446 هـ

الفيتامين واو

يوم قرأت الإعلان المنشور في إحدى الصحف المرموقة لم أكد أصدق عيني. أهذا معقول؟! شركة عملاقة ضخمة مشهورة تحتاج إلى موظف براتب لا يكاد يصدق؟!
يا إلهي! من هذا الموظف المطلوب؟ لماذا لم يذكروني أنا بالاسم؟ إن الشروط التي تطلبها هذه الشركة مفصلة علي تماماً، إنها بذلة قدت على مقاسي: شاب، حسن المظهر، يحمل شهادة جامعية في الاقتصاد، يجيد أعمال الحاسب الآلي، ويتقن لغتين أجنبيتين، لا يزيد عمره على الثلاثين، وذو خبرة في العمل لا تقل عن خمس سنين.
إنه أنا، تخرجت في الجامعة من أكثر من خمس سنوات، تعبت على نفسي كثيراً، حتى أصبحت أمتلك مهارات متميزة قل أن يمتلكها من كان في مثل سني.
كنت أطمح أن أعين -وأنا الأول- على دفعتي- معيداً في الجامعة، ولكني لم أكن أمتلك شيئاً مما يسمونه (الفيتامين واو)، أعني الواسطة.. فقذف بي إلى وظيفة حكومية متواضعة براتب شهري لا يكاد يكفي لسد الرمق، ولكني مضيت أثقف نفسي، وأجيد مهارات كثيرة، ها أنا ذا اليوم أتقن أعمال الحاسب الآلي، وأجيد مداخله ومخارجه، وها أنا ذا أجيد لغتي أقوياء العصر الأساسيتين: الإنجليزية والفرنسية، وعندي التخصص المطلوب، والخبرة الوظيفية المشترطة.
خمس سنوات على تخرجي، أصبحت في حوالي الثلاثين. ترى أمي أني تأخرت كثيراً في الزواج، وعينها على ابنة الحاج محمود، تخشى أن تطير منها.
وكم لاحقتني، وألحت وألحفت:
- يا بني أريد أن أفرح بك قبل موتي.
وتغرورق عيناها بالدمع:
- سمية تخطب كل يوم.. وأعرف أنك تريدها وعينك عليها.. وأعرف أن عينها عليك كذلك..
وأقول مهدئاً من روعها:
-أطال الله في عمرك يا أمي.. ولكنك تعلمين أن العين بصيرة واليد قصيرة.. هل يستطيع هذا الراتب المتواضع الذي أتقاضاه أن يقيم أود أسرة؟ ادعي الله لي يا أمي أن ييسر لي ويفتح علي..
ينساب من فمها نهر من الدعاء لي:
-فتح الله عليك يا ولدي.. ورزقك رزقاً حسناً.. وأسأل الله أن تكون سمية من نصيبك..
***
حكيت لأمي خبر هذا الإعلان المنشور، فكادت تطير من الفرح وكأني قد عينت في هذه الوظيفة المطلوبة حقاً.
جمعت الأوراق المطلوبة، وصدقتها بحسب الأصول، وأرسلتها بالبريد المسجل السريع إلى عنوان الشركة المذكور.
كانت ثقتي كبيرة أن هذه الوظيفة المرموقة ستكون من نصيبي، لقد كانت مؤهلاتي عالية جداً، ولو كان عندي الفيتامين الذي ذكرته لكنت الآن في مكان أغبط عليه، ولكني قذفت في وظيفة متواضعة براتب لا يكاد يسد الرمق، وفي قرية بعيدة جداً عن قريتي.
ولكن الفرصة تأتيني الآن. هذه شركة مشهورة، وأحسب أن الفيتامين الذي يمكن أن يقبل عندهم هو مؤهلاتي، وهي نفيسة تبيض الوجه.
مرت ثلاثة أشهر على إرسال الأوراق. بدأ القلق يساورني، ولم يكن يخفف من تأججه إلا دعاء والدتي الذي لا ينقطع أن تكون هذه الوظيفة من نصيبي.
وها هو ربي يستجيب دعاء أمي الصالحة التقية. طرق باب بيتنا ساعي البريد يحمل رسالة مسجلة من الشركة المذكورة، وقال إنها لا تسلم إلا لصاحب العلاقة بالذات.
أخذت أمي الفرحة، فلم تستفسر عن اسم صاحب الرسالة، بل أطلقت زغرودة فرح سمعها الجيران، فأقبلوا -وهم يعلمون أني أنتظر رسالة تعيين بوظيفة رفيعة في شركة محترمة- يهنئون، وكأن الأمر قد أصبح مؤكداً.
لم تشك أمي، ولا شك أحد ممن سمع بوصول الرسالة، ولا شككت أنا نفسي أني المقصود بها، وأن الوظيفة صارت في جيبي.
طرت من الفرحة، سجدت شكراً لله، بنيت في لحظات قصوراً من أحلام ناطحت السحاب. كان علي أن أحضر بسرعة لتسلم الرسالة بنفسي من مكتب البريد، فهي رسالة خاصة مسجلة لا تسلم إلا لصاحب العلاقة نفسه.
كنت في زحمة العمل في مكان بعيد عن قريتي، وما كنت أستطيع الحضور فوراً. كان بين يدي عمل لا بد من إنجازه، ولن أستطيع المغادرة قبل أسبوع على الأقل.
اعتراني قلق شديد، خشيت أن تكون الشركة تطلب رداً عاجلاً بالموافقة على شروط تعييني فيها، فاجتهدت ما استطعت أن أحصل -بأسرع فرصة- على إجازة يومين من دون أجر لأحضر إلى قريتي، وأتسلم الرسالة من مكتب البريد.
سرى في قريتنا نبأ الرسالة كما تسري النار في الهشيم، ما عاد من حديث للقوم عندنا إلا عن رسالة تعيين في شركة أجنبية عملاقة بمرتب خيالي لأحمد بن الحاج مصطفى الكسواني.
وبدا الجميع- كما أخبرتني أمي بالهاتف- سعيداً بذلك، بل فخوراً. وكادت أمي أن تطير من البهجة عندما نمى إليها أن والد سمية قد قال عندما بلغه خبر الرسالة:
-أحمد يستحق كل خير. هو زينة شباب هذه القرية. ما في فريتنا كلها أحد غيره يمتلك المؤهلات المطلوبة لمثل هذه الوظيفة المرموقة.
وقال والد سمية، وهو ما أسعد أمي كثيراً:
شاب عصامي مثقف.. يفتخر به أي بيت يصهر إليه.
عدت أمي هذا الكلام دعوة صريحة من أبي سمية للتقدم لخطبة ابنته، وقالت وهي تزغرد من الفرح:
- سأذهب غداً لأطلب لك البنت من أهلها.
ضحكت على الطرف الثاني من الخط، وقلت:
- يا أمي انتظري، أنت تتحدثين وكأن الوظيفة قد أصبحت في يدي.
قالت أمي طربة واثقة:
- وهل في هذا شك؟ ألم تصلك الرسالة؟
حصلت على الإجازة من عملي. وصلت إلى قريتي. استقبلني الأهل والمعارف استقبال الأبطال، طرقت مسامعي عشرات المرات:
- مبارك عليك الوظيفة الجديدة.. وفقك الله.
ووجدت أمي قد اتصلت بأم سمية، وأخذت منها موعداً لزيارتهم.
كنت قد وصلت من وظيفتي إلى قريتنا بعد انتهاء الدوام الرسمي، فلم يتح لي الذهاب إلى مكتب البريد. لم أستطع النوم تلك الليلة. صحوت في وقت مبكر قبل صحو الديكة والعصافير. انطلقت إلى مكتب البريد قبل بدء الدوام بساعة، ورحت أنتظر قدوم الموظفين وأنا مستطار من البهجة، أحس أن طاقة إلى الجنة قد انفتحت لي.
جاء الموظف المسؤول، دفعت إليه هويتي الشخصية، والإيصال الذي تركه لنا في البيت لنتسلم بموجبه الرسالة.
دفع إلي الرسالة، فضضتها على عجل، ورحت ألتهم حروفها:
-السيد أحمد بن مصطفى اللبواني..
تحية طيبة وبعد: فقد اطلعت الشركة على شهاداتك ومؤهلاتك، وقد اختارتك للوظيفة المذكورة. يرجى مراجعة مدير العلاقات العامة في الشركة لإنجاز معاملة تعيينك.
كاد يغمى علي، الرسالة والوظيفة إذن لأحمد بن مصطفى اللبواني، مدير الفرع في القرية، وليست للعبد الفقير أحمد بن مصطفى الكسواني.
هل تشابه البقر على ساعي البريد، فأخطأ في العنوان؟

ذو صلة