سؤال يطرح ذاته وسط تنوع ثقافي وأدبي متعدد الجوانب، فالنثر يعد من الأنواع الأدبية المهمة لدى القراء في العالم، والرواية هي التي أعطته تلك الأهمية، فتطورها الملحوظ جعلها المفضلة مقارنة مع الأشكال الأدبية الأخرى، ولأن الرواية هي النتاج الأدبي الذي يعطي العصر طابعه الخاص.
وربما هو ميل الإنسان إلى سرد تجاربه الحياتية، من نجاح وهزائم وخيبات وانكسارات، والتعبير عمّا يجول في داخله، دفعه إلى رواية حكاياته وقصّها على الآخرين، ليتشكل من خلال هذا السرد عالم خاص به، وإن كان غير حقيقي وخيالي.
لكن السؤال يبقى قائماً! هل تكفي الرواية للتعبير وفهم الوجود لدى كاتبها؟
هل تتسع لكل ما في الكون من مشاعر وأحاسيس ومتناقضات، أم أنها مجرد شكل من أشكال السرد فقط، ونوع من أنواع التعبير عن الذات؟ أم هي مجرد رغبة في الحديث وتبديد الوقت في هذا الوجود العبثي، كما فعلت شهرزاد لإبعاد السيف عن رقبتها بسرد القصص والتلاعب بالوقت لصالحها؟
يقول الناقد الروسي (ميخائيل باختين): إن الرواية قادرة أن تكون شكل الأشكال من خلال الاقتراض من الأشكال الأدبية اللغوية والبصرية، كالشعر والمسرح والسينما والفن التشكيلي، ومن السرديات التاريخية والبحث والنقد.
يستطيع الروائي أن يضع على لسان الشخصيات كلاماً فلسفياً، ورؤى اجتماعية وتحليلات سياسية، لتصبح الرواية معرضاً لتصورات العصر الأيديولوجية والثقافية والفلسفية.
يرى البعض أن الرواية كوسط تعبيري وحيد غير كافية، وقادرة على الأخذ من الأنواع الأدبية الأخرى، فقد خالطها البعض بأنواع وتجارب أخرى من الكتابة، واستخدموا أشكالاً تعبيرية مختلفة للتعبير عن مكنونات أنفسهم، منهم من أدخل وسطاً تعبيرياً آخر مع الكلمة، كالنحت أو الرسم، ومثال ذلك الروائي الألماني (غونتر غراس) الذي يمارس الرسم والنحت إلى جانب الكتابة، والشاعر اليوناني (يانيس ريتسوس) الذي كان ينحت من الحصى الصغيرة أشكالاً مختلفة خلال فترة سجنه.
والبعض منهم كتب القصة القصيرة كالروائي الأمريكي (إيرنست همنغواي)، والروائي الإنجليزي (سومرست موم)، ومن الكُتّاب العرب الروائي المصري (نجيب محفوظ)، والروائي (غسان كنفاني)، والقاص المصري (يوسف إدريس).
البعض منهم كتب للمسرح إلى جانب الرواية، والبعض الآخر كتب السيرة الذاتية والشعر والمسرح مع الرواية، مثل (غونتر غراس) الذي كتب الشعر وأصدر عدداً من المجموعات الشعرية، والأديب الألماني (يوهان)، والكاتب المصري (توفيق الحكيم) والكاتب الفلسطيني (جبرا إبراهيم جبرا).
هذا كله يؤكد عدم كفاية الرواية كشكل تعبيري وحيد، بالرغم من تفوقها على باقي الأشكال التعبيرية الأخرى، فهي قادرة على الأخذ من الجميع، وإصرارها على التطور وعدم الاستسلام لحال واحدة، جعلها في المقدمة.
خارج إطار السرد
نجد في هذا المجال عدداً من الكُتّاب قد اعتمد أشكالاً غير سردية، للتعبير عن رؤاهم وأفكارهم، ككتابة المقالات والبحوث الأدبية والدراسات، فهذه الأنواع الأدبية تحمل من القدرة التعبيرية الكثير، الذي ربما يكون غير متوفر في السرد. وهنا أذكر الكاتب التشيكي (ميلان كونديرا) الذي أراد أن يتأمل تاريخ الكتابة الروائية عبر العصور، ومقارنة ما يكتبه هو مع ما يكتبه غيره.
فقد كتب كونديرا ثلاثة كتب عن تاريخ الرواية، فن الرواية، عهود تمّت خيانتها، (الستارة) وهي مقالة في سبعة أجزاء، في خطوة منه لتأمل مسارات الرواية الأوروبية ماضياً وحاضراً، ليقع على الآفاق المحتملة لتلك الرواية في نهايات القرن العشرين، وبدايات القرن الواحد والعشرين.
كذلك فعل الروائي البيروفي (ماريو فارغاس يوسا) الحاصل على نوبل للآداب عام 2010 والذي كتب دراسة نقدية عن تيار الواقعية السحرية في رواية أمريكا اللاتينية، مركزاً على ماركيز، كما كتب في السياسة ونشر العديد من المقالات في الصحف الإسبانية.
وفي حالة أخرى نجد الروائية الهندية (أرونداتي روي) من مواليد 1961 التي أصدرت عملها الروائي الأول (هل يكون الأخير؟)، (إله الأشياء الصغيرة)، عام 1997 وفازت من خلاله بجائزة البوكر البريطانية في ذلك العام، لكنها لم تتابع في مجال الكتابة، واختارت العمل السياسي، فأصبحت ناشطة سياسية ومناهضة للتسلح النووي، ومن دعاة الديمقراطية في العالم، ومناهضة عنيدة لمشاريع السدود الضخمة في الهند، لما تسببه من تشريد للملايين من البشر، وتدمير الحياة البيئية الطبيعية، وإجبار السكان على تغيير المهن التي تربوا عليها طول حياتهم.
تقول في إحدى لقاءاتها الصحفية، التي أجراها معها الصحفي الأميركي (ديفيد بارساميان)، إنها بالرغم من نجاح روايتها الأولى والوحيدة وتجاوز مبيعاتها أكثر من ستة ملايين نسخة، إلا أنها لا تجد نفسها إلا في ذلك النوع من الكتابة، الذي يتجه نحو البيان أو الكتابة السجالية، التي تعبر من خلالها عن التزامها بالقضايا العامة، فهي لا تختبئ خلف الشخصيات الغامضة، بل تقول رأيها بكل صراحة ووضوح، وقد توالت إصداراتها فيه على مدار السنوات الأخيرة، ومن هذه الكتب (نهاية الخيال) و(ثمن العيش) و(علم جبر العدالة اللانهائية) و(سياسات القوة) و(حديث الحرب) و(دليل القارئ العادي إلى الإمبراطورية) و(الإنصات إلى الجنادب).
ومن هنا نرى أن السرد غير كافٍ كآلة موسيقية، وسط فرقة موسيقية كاملة، فهناك حاجة دائمة للتنوع الثقافي الأدبي في شتى مجالاته وألوانه التعبيرية، فالمقالة والدراسة والشعر والسيرة الذاتية، هي أشكال يحتاجها الكاتب للتعبير عن نفسه وما يجول في فكره أحياناً إلى جانب الرواية.
وهذا ليس استخفافاً في الرواية بل على العكس، الرواية عالم كامل بحد ذاته، عالم من الخيال الواسع والقدرة الكبيرة على ربط الأحداث والوقائع والخيالات، وليس بالأمر السهل كتابة رواية فهي من أصعب أنواع السرد على الإطلاق، ومن امتلك مفتاحها السري، امتلك القدرة على الخوض في شتى المجالات الأدبية الأخرى، لأنها المتربعة على عرش الأدب.