رغم نتاج الكاتب العربي الدافق من الرايات المعرفية والكتابات المرفرفة في فضاءاتنا، والتي يولد من رحمها الشخص العقلاني الصالح الذي يعزز الطلب على المعرفة والتقدم والرقي، بجميع قطاعات الحياة والمجتمع، نراه حزيناً تثقله سلاسل العثرات وفداحة الأخطار، و ما يمر به تلخصه مقولة شهيرة للأديب الراحل يوسف إدريس: ( كل الكمية المعطاة من الحرية في الوطن العربي لا تكفي كاتباً واحداً)، ولذلك ليس بالغريب أن يطبق كاتبنا العربي الغطاء على رأس قلمه ويتقاعد عن كتاباته، شعوراً منه بأن أفكاره الخلاقة لا يمكن أن تولد في فسحة مقيدة بقضبان ضمن شرانق متقوقعة، فالحرية لديه أهم من كل الأمور الأخرى التي تشغله، وبمجرد أن وضعت له خطوطاً حمراء فإنك بذلك قد خلقت لديه نوعاً من الانحباس الإبداعي الذي يمنع ويقتل الإنتاج الابتكاري المنطلق من أعماقه.
ولا أشمخ من سلسلة القمم التي تضيئها شمس العلم، إذ تتألق بتنوع خلاب من ضروب المعرفة، وكما نعلم أن التعليم هو صلب عملية تنمية الإنسان، والمعرفة هي أداة التعليم المأمول، وكلاهما -التعليم والمعرفة- ليسا سلعاً تستورد شأنها شأن السيارات أو الملابس، بل هما مترابطان عضوياً بثقافة وبنى مؤسسية وأنشطة لا بد أن تغرس في واقع بشري محدد، وتروى وترعى حتى تنمو متلائمة مع هذا الواقع وتصير قابلة للعطاء، ومعظم أصحاب المهن والأعمال يتحركون ضمن اختصاصاتهم -كالطبيب والمهندس أو المحامي.. إلخ- في حدود مجالاتهم إلا أن الكاتب -ولا سيما إذا كان من فئة المفكرين- يبحر في نطاق العلم وسفن المعرفة، و يلمس كل القضايا الكبرى التي تحف بأمته، متخللاً نسيجها بكامل تفاصيله، يبحث في جذور المشكلات التي تثقل كاهلها، محاولاً إيجاد الحلول وإيقاف النزيف وإنارة الأفق ببعض من رشقات الأمل كل يوم وكل ساعة، مبعداً عنا التخلف والخزعبلات، فضلاً عن جوانب الإبداع الشتى -كالقصة والرواية- وما تضفيه من جمال السفر في دروب الخيال، وهذا بمجمله من شمولية توجهاته واتساع حدود تأثيراته في مختلف جوانب الحياة.
ومسألة العقبات والمخاوف التي تعيق الكاتب العربي والعالمي قائمة منذ القدم، فهناك فيلم سينمائي بريطاني للمخرج الفرنسي الراحل (فرانسوا تروفو) أخرجه عام 1966 بعنوان (451 فهرنهايت) -وهي درجة الحرارة التي يحترق عندها الورق- يستند إلى رواية كتبت عام 1953 من قبل الأديب الأمريكي (راي برادبري)، يظهر الفيلم مدى الخوف الذي سيطر في ذلك الوقت على الكتاب والمثقفين، والخشية من أن يصل الأمر باستبداد حكامهم إلى إحراق الكتب والآداب، والتي كانت تعتبر حينها الأداة والرمز الكلي للمعرفة، ولكن لحسن الحظ لم تتحقق رؤيته لاحقاً.
وهناك القلق من عدم الرواج، والتفكير بأذواق المجتمع وتفضيلاته، تؤثر على كاتبنا العربي، وهذا ما ينتج عنه تغيير في الخطة الكتابية، فلا يعرف هل يتقدم أم يتراجع؟ يحذف أو يغير أو يضيف؟ والكثير من صراع الأفكار، رغم أن الكاتب الحقيقي يجب أن يتحلى بالثقة المطلقة بالنفس والثبات، فلو أن كل كاتب شكك وخاف من التعبير عما يجول في ذاته أياً كان، لما حصلنا على كوكبة عملاقة من الكتاب صقل التاريخ بمقالاتها وكتبها ورواياتها ومازالت لأيامنا هذه، لكن العثرات تزيد الأمر تعقيداً لتبقى الأمور دار لقمان على حالها، مثلاً مسألة تراجع القراء في مجتمعاتنا هي كارثة حقيقية لا تبشر بالخير، فلا الكاتب يعود له الحماس حينما يرى أن الفئة التي يكتب لها تهمل وتتراجع، ولا دور النشر -ولو أن بعضها مؤسسات ربحية- ستكترث، فنلومها لأنها تختار مواضيع سطحية فارغة لبعض المؤلفين -الذين يملكون المال لنشر كتبهم- ثم إنهم يعبثون بمفهوم الكتاب الحضاري مما يزيد الوضع سوءاً فوق سوء، فلا يدخل وجدان القارئ، مما يؤدي إلى تدني المستوى الإبداعي وخلق عاهة مستدامة للمجتمع. وهذا يجعلنا نفهم جانباً من تحديات الكاتب العربي، الذي لا خيار له إلا التسليم بشروط الواقع ومرارته، إذ ذهب القارئ العربي بكامل تركيزه إلى نفق الترجمات المتعددة لكتب الغرب، وتناسى أن لغته العربية أخرجت من كنوزها كتاباً بدوغمائية ثاقبة زخرفوا بحروفها أثمن وأعرق ما أوجده الفكر.
فكم من المؤسف رؤية الشاب العربي -الذي من المفترض أن يكون قارئاً شغوفاً بالكتب- بصورة كاريكاتورية محزنة، غافلاً عن المطالعة، غارقاً في براثن الضلال والجهل، وتلك مشكلة تطيح بنخبة المجتمع العربي، وتجعله في الصفوف الأخيرة، وهذا يفسر جيلنا الهش الذي لا يقارن حتى بسابقه من الأجيال المبدعة القارئة، والتي نتج عنها أولئك الأدباء الرائعون، مقارنة بالقارئ الأجنبي الذي يرغف الكتب بأشكالها أكثر من الطعام -تتنوع صور المكتبات العالمية الأجنبية على مواقع التواصل وهي تنغل بالقارئين- لما للمطالعة من دور قوي فعال في التنوير و صقل الفكر والوعي، ثم إن هناك مفارقة واضحة في شخصيتنا قبل أن نقرأ أي كتاب وبعده، لأننا نأخذ ما نحتاج من صفوة مفيدة تجعلنا أفضل.
والمشكلة مع الرقابة الإعلامية هي وجه آخر لتقييد حرية الكاتب، فهي تتحكم بمحتوى بعض الأخبار المحددة، والتي لها علاقة بمصالح الشعب أو مصالح شخصية، والمدهش في هذه الظاهرة قدرتها على التكيف مع أيديولوجية وسائل التواصل الحديثة، لتقوم الرقابة بحذف أو إعادة كتابة أو منع نشر أو حتى سجن صاحب العمل! فتلجم مساعيه وتعرقل منافذ التحليق لديه، ولا تسمح إلا بقدر محدد من حرية الكلمة، مما يجعله مكبلاً مهزوماً بكبته المتراكم لما يجول في نفسه من أفكار، الأمر الذي يضطره إلى إخفائها ضمن ذاكرته الثقافية أو النقاش بها بصوت خافت في مجالس الأصدقاء، كنوع من الاستفاضة فقط.
عدا عن ذلك، فالكاتب يبقى الطرف الأضعف في كل عقد مبرم مع دور النشر، فلا يوجد ميثاق حقيقي يضمن نسبة أرباحه، أو التحكم في توزيع النسخ، رغم وجود قانون حماية حق المؤلف، بالإضافة إلى الشكوى التي نسمعها مراراً من إهمال المؤسسات الثقافية والرسمية للكاتب العربي في بعض البلدان، فهي تدل على شدة تردي الأوضاع التي يعيشها الكاتب على مستوى النشر، والأصعدة الأخرى التي تحيط بحياته وبفضاء الإبداع لديه.
هذه الصعوبات والعوائق التي تعرقل أهل العلم والأدب والقلم، تمنع أيضاً إنتاج مواطنين أكفاء لمجتمع المعرفة -الإنسان هو معيار الأشياء جميعاً- فتهدد مسيرة الكاتب العربي المعاصر، وتلقي بأشواكها المؤلمة على إنتاجه وقدراته، وإذا كان هناك من يتهمون الكاتب العربي بالتقصير في الوصول إلى مستوى التحديات الثقافية في عصر العولمة، فإنني أعتقد أن هذه التهم تنطوي على كثير من الظلم والتحامل، فرغم الشروط والتقييدات التي تثقل كاهله، لم يتوقف سراج قلمه وقلبه عن الجود، ولزاماً علينا أن نكرمه، ثم إنه يجب أن نقتلع تلك العثرات التي تحيط به من جذورها، ونعالج كل القضايا خاصته، ليعود بثبات إلى أي تحد، وأبسط وسائل العلاج إقامة النقيض لأسباب الداء، ومعرفة أن عدم القيام بهذه الخطوة، لن يصل بنا إلا إلى مزيد من التخلف عن العالم من حولنا.