مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

العجوز وبائع البرتقال

ورد في تراثنا العربي الزاخر بالقصص الساخرة النادرة، التي حوت في مضامينها حكماً وعبراً ودروساً لنا في الحياة، يمكن أن نستوعبها ونتعلم منها الكثير من القيم والمواعظ والدروس، ومن تلك القصص الساخرة حكاية شعبية قديمة، حيث يذكر أن بائع فاكهة برتقال كان يقف على قارعة الطريق بأحد الأحياء الشعبية في بلدته، محملاً على عربته الخشبية المتهالكة فاكهة البرتقال، فمرت بقربه عجوز تستند على عصاها المعوجة بهندامها الرث وتجاعيد وجهها المتعرجة بفعل الزمن، وسألته إن كان ثمار البرتقال المعروض على العربة للبيع أم لا، وهل هو برتقال حامض.
ظن البائع أن العجوز لا تأكل البرتقال الحامض حسب اعتقاده، لتقدمها بالسن، حيث إنها بلغت من العمر عتياً، فرد عليها مسرعاً: لا.. أبداً. هذا برتقال حلو جداً، ممتاز، لذيذ المذاق، يصلح لكبار السن ويقوي المناعة، إنه شهي الطعم، وكم يلزمك يا سيدتي من هذا البرتقال الطيب الحلو جداً؟
ردت العجوز قائلة: (ولا حبة واحدة أحتاج منه، أنا أرغب في شراء البرتقال الحامض جداً، فزوجة ابني تتوحم (حامل) وهي تشتهي طعاماً حامضاً). خسر البائع هذه الصفقة من الزبون المرأة العجوز، وذهبت مدبرة تتوكأ على عصاها المعوج، لكنه فكر في نفسه أن يكون أكثر دهاء ومكراً وذكاء وتحايلاً في المرة القادمة، بأن يصنع ويتفنن ويحسن ويتقن الكذب والاحتيال لتسويق بضاعته الكاسدة. بعد يومين، اقتربت منه امرأة حامل، وسألته: هل هذا البرتقال حامض يا سيدي؟ وبما أن المرأة حامل فقد تذكر موقف العجوز، التي رفضت الشراء منه في المرة الفائتة، لأنها كانت ترغب ببرتقال حامض المذاق، فكانت الإجابة بنعم إنه حامض جداً كحموضة الليمون يا سيدتي، لأنه يريد بيعها، ثم سأل سؤاله الشهير: (كم تريدين) أن أوزن لك منه؟
فأجابته: لا أريد شيئاً منه، ولا حبة واحدة، فقد أرسلتني أم زوجي لأشتري لها برتقالاً حلواً جداً يناسب عمرها المتقدم بالسن، وأنت سابقاً كنت أخبرتها عنه قبل يومين بأنه حلو المذاق، ويصلح لكبار السن، ولهذا أتيت لأشتري منه، وأنت تقول إنه حامض جداً!
عرف بائع البرتقال الآن، أن هذه المرأة هي قريبة تلك المرأة العجوز، واقتنع أن كذبه وخداعه لا ينطلي على أحد، ومرده في النهاية ضده، لأن حبل الكذب قصير، مهما تفنن في الكذب والنصب والاحتيال والتزلف والتضليل.
من هذه القصة نستنتج أن الإنسان يحصد نتائج قناعاته السلبية وتصرفه الأحمق، وأن عليه أن يلبي رغبات الزبائن ومطالبهم، لا رغباته هو وطمعه وجشعه، وبذلك تباع بضاعته على الوجه الأمثل.
وعليه أن يحسن الظن بنفسه وبالآخرين، إن كان البرتقال حامضاً أو حلواً، مهما كان سعره وطعمه وشكله ولونه، ومتى يستوعب أن القناعة كنز لا يفنى، وأن الكذب والتحايل والمراوغة والزيف والخداع تبعد الرزق والزبون معاً، ويهرب الرزق من أمامه، وهي تجارة كاسدة وسلعة بائرة تفقده كل الزبائن وتطرد الراغبين، سواء الشباب اليافعين أو الكبار الطاعنين بالسن، أو مع هذه العجوز التي كشفت المستور عن نوايا البائع المغلفة بالكذب، وعرفت حقيقة هذا البائع المحتال المراوغ غير الأمين، وغير الصادق بنواياه الخبيثة، التي بارت بضاعته دون رقابة من إدارة البلدية أو معرفة صلاحية المنشأ، لتلك البضاعة التي كسدت وانتهت صلاحيتها، ولم تعد تصلح للاستهلاك الآدمي، بفعل سوء أعمال صاحبها، الذي لم يحسن الظن بنفسه ولا بزبائنه الذين أدبروا عنه مكتشفين حقيقة بائع البرتقال، الذي لم يتقن فن الصنعة، ولا حسن النوايا والتعامل مع الآخرين، وينطبق عليه قول الشاعر:

إن البلاء موكل بالمنطق    ***    احفظ لسانك أن تقول فتبتلى

ذو صلة