في عام 1999م قمت بإجراء تجربة أولية على حبوب العدس الكاملة، وذلك بأن عرّضت ثلاث مجموعات منها (بعد نقعها في الماء) لمدد زمنية مختلفة لمنبع يصدر أمواجاً فوق الصوتية، أي الأمواج التي يزيد ترددها عن 20 كيلوهرتز ولا تستطيع أذن الإنسان سماعها. كانت نتائج التجربة مدهشة بالنسبة لي عندما قارنتها مع عينة رابعة ضابطة لم أخضعها لهذه الأمواج. فقد حدث للعينات الثلاث نمواً ونشاطاً خضرياً في ساقها أكثر بثلاثة أضعاف من النمو الخضري للعينة الضابطة، وخصوصاً العينة رقم (3) التي تعرضت لأطول مدة زمنية، وهنا أدركت لأول مرة تجريبياً أن النبات يتأثر تأثراً شديداً بالأمواج فوق الصوتية، وربما بالأمواج الصوتية المسموعة أيضاً. عرضت نتائج هذه التجربة على مديري مراكز البحوث العلمية الزراعية في سورية، الذين شجعوني للمضي قدماً في البحث، لكن الانشغال بمشروعات بحثية أخرى وظروف الحرب حالت دون ذلك. اعتقدت للوهلة الأولى أنني أول من لاحظ ظاهرة تأثر النبات بالاهتزازات الصوتية بشكل عام، لكنني بعد بحث وتدقيق وجدت أن العرب قد سبقوني، بل وسبقوا الأوروبيين في ذلك.
هل للنباتات حواس مثل حواسنا؟
تشير الدراسات الحديثة أن النباتات تتمتع بعدد من الحواس التي يملكها الحيوان. فقد كشف العلماء عن حاسة الشم لدى النبات بأن تجعل بعض النباتات نفسها غير صالحة للأكل عندما تشم رائحة غاز الإيتلين الذي تنتجه جارتها التي تتعرض لهجوم من قبل بعض الحشرات. واستدل العلماء أن جذور النباتات تتنحى جانباً عندما (تتذوق) طعم النترات في طريقها. أما حاسة اللمس فهي التي تمكنها من الانغلاق على الفرائس، (كما في نبات خناق الذباب)، أو تجنب المفترسين (كما في نبات الميموزا)، وتستشعر بالحرارة عندما ترتفع فتبدأ بتفتيح الأزهار. وبخصوص حاسة الرؤية، فهي أيضاً تتبع مصدر الضوء، كما في نبات (دوّار الشمس). وقد أشار العلماء إلى تمتع بعض النباتات بحساسية عالية للحقل المغناطيسي والكهربائي، كما هو حال نبات العرق سوس الهندي، الأمر الذي جعل أهل المنطقة يستفيدون منه في عمليات التنبؤ الجوي.
أما بخصوص حاسة السمع فقد وجد العلماء في النصف الثاني من القرن العشرين أن النبات قادر على التمييز بين الأصوات التي تسمعها الأذن البشرية. كما وجدوا أن النباتات تستخدم الاهتزازات الصوتية في نطاق الترددات دون الصوتية للتواصل مع غيرها من النباتات الأخرى المجاورة لها في المسكن.
ويرى الباحثون، في حين أن النبات قد لا يسمع بالضبط، كما نسمع نحن البشر بوساطة الأُذن والأعصاب، لكن النباتات تشعر بالاهتزازات الصوتية والتمييز فيما بينها. طبعاً يستخدم النبات هذه الحواس إما من أجل جذب الحشرات لنقل حبوب اللقاح أو للدفاع عن نفسه أو للاصطياد أو صنع الغذاء.
ملاحظة حاسة سمع النبات عند العرب
لقد أطلق العرب على العديد من النباتات اسم (أُذُن أو آذَان) وذلك للشبه الشكلي أو الظاهري بين أوراق تلك النباتات وأُذن أحد الكائنات الحية. مثلاً يوجد نبات أذن الفأر، وأذن الفيل، وأذن الدب... إلخ، لكنهم لم يشيروا مباشرةً إلى ظهور تفاعل صوتي بينها وبين البشر كما هو الحال مع هذا النبات الذي سنتكلم عنه حالياً، الذي بين أنه كله (آذان صاغية) لما يقوله له البشر، خصوصاً ما يكون له جرس موسيقي.
فقد تحدث تقي الدين أبي العباس حمزة بن عبدالله بن محمد علي الناشري (توفي 926هـ/ 1520م) عن نبات يتأثر بالصوت فقال: إنّ (قوماً زعموا أن للنبات حساً وحركة إرادية، لما رأوا فيه ما يميل مع الشمس حيث مالت كالشقائق والحور الخُبَّازي. وما ينفتح لطلوعها وينضم لغروبها، كالميثوفر والآذريون. وزعم قوم أن له من الحس عقلاً وفهماً، قال: ومما يخيل للذهن ما زعموه ما حكى لي به القاضي فخر الدين إبراهيم بن ديوقا بن علي، قال مررت بقرية من قرى بعلبك تسمى الرمانة، فرأيت في أرضها نباتاً يشبه المنثور في لونه وكونه، فوقفت متعجباً من حسنه فقال لي بعض الظرفاء: وأزيدك منه عجباً، قلت وما هو؟ قال تغني له ببيتي شعر معروفين فلا يزال يهتز حتى يسقط ورقه ويذبل، ثم اندفع يغني، ويوقع بكفيه:
يا ساكناً بالبلد البلقع
ويا ديار الظاعنين اسمعي
ما هي أطلالي ولكنها
ديار أحبابي فنوحي معي
قال فخر الدين فوالله لقد رأيت ما حولنا من ذلك النبات يهتز كأنما أصابته ريح عاصف حتى تناثرت ورقاته، وذبلت طاقاته).
وقد سرد لنا محمد بن إياس (توفي 930هـ/ 1524م)، رواية أخرى قال فيها: (ونقل صاحب المبدأ أن ببعض نواحي دمشق جبلاً لطيفاً ينبت فيه نبات يشبه الريحان إذا وقف عنده إنسان ونظر إليه وأنشد هذين البيتين يتمايل هذا النبات كتمايل من حصل له طرب يذكر حبيبه وهما هذان البيتان:
يا ساكناً بالجبل البلقع
ويا ديار الظاعنين اسمعي
ما هي دياري ولكنها ديار
من أهوى فنوحي معي
قيل إنّ الناس يقصدونه وقت القائلة في شدة الحر وليس في الجو هواء ويذكرون عنده هذين البيتين فيرون من التمايل، وإن لم ينشده فهو ساكن لا يتحرك، وهذا من العجائب).
نستنتج من الروايتين السابقتين أن هذا النبات (شبيه المنثور أو الريحان) أنه ينتشر في بلاد الشام، وأنه يختلف عن نبات الميموزا الذي يتأثر بحاسة اللمس. وواضح أيضاً من النصين تأثر النبات بالجرس الموسيقي ودقة النغمة والإحساس بإيقاع البحر السريع، والذي يعكس تقاليد الشعر العربي الرفيعة أكثر من تأثره بالحديث العادي بين الناس. ومن المعروف أن نغم البحر السريع يشبه النثر المسجّع، لولا انتظام تفعيلاته وقوافيه التي تقوم على النظام:
بحر سريع ما له ساحل.. مستفعلن مستفعلن فاعلن
لذلك فقد تجنبه الشعراء خصوصاً الجاهليون، فلم يعتمدوا قواعده في أشعارهم إلا قليلاً. فهو لا يتمتع بالإطراب الذي تتميز به البحور القصار، ولا قوة النغم الذي تتميز به البحور الطوال. ولذلك فإنه يلائم من الشعر المقطوعات القصار لا القصائد الطوال، وهو ما قد يفسر لنا الاستجابة التي ظهرت من قبل النبات.
في الواقع إن ما اكتشفه العرب عن تأثر النبات بالصوت يناقض ما كان يعتقده أرسطو الذي قال: إن النبات له روح، لكنه بلا مشاعر أو أحاسيس. وقد وجدت الدراسات الحديثة أن النبات يفضل -بشكل عام- الموسيقى الهندية الشرقية بالدرجة الأولى، ثم تأتي بعدها الموسيقى الكلاسيكية ليوهان باخ. وهو لا يستجيب لموسيقى الغرب الأمريكي التقليدية (الويسترن)، لكنه يتفاعل بحماس مع موسيقى الجاز، حيث تميل سيقانه نحو مصدر الصوت بزاوية تتراوح بين 15-20 درجة. وقد وجدت الدراسات أن الضجيج يعيق نمو النبات بنسبة 40%.
كان غوستاف ثيودور فيشر (توفي 1887م) G. Th. Fechner عالماً فيزيائياً وفيلسوفاً وعالم نفساني تجريبي ألماني، وقد ظهرت نظرية (تأثر النبات بالصوت) على يديه عام 1848م، والتي نشرها باللغة الألمانية في كتابه (Nanna، oder، über das Seelenleben der Pflanzen) (نانّا، أو الحياة الروحية للنبات)، مشيراً إلى أن النبات يمكنه الإحساس والشعور بصوت الإنسان. لكن في الواقع تشير الأدلة النصية التي عثرنا عليها أعلاه أن العرب سبقوا فيشر بمئات السنين في ملاحظة هذه الظاهرة.
نتيجة كل ما سبق أوحى للباحثين بإمكانية تحسين الإنتاج الزراعي من خلال الاستعانة بالمؤثرات الصوتية، وذلك عن طريق إحداث موجات اهتزازية داخل الخلية النباتية لزيادة مستوى الطاقة الأمر الذي يحفز النبات ويقويه.