لطالما ظن البشر الأوائل الأرض مبسوطة أمامهم على مد البصر، حتى قاد التفكير بعضهم لملاحظة بعض الظواهر التي لا يمكن لنموذج الأرض المسطحة تفسيرها.
كانت مشاهدة خسوف القمر وكسوف الشمس اللذين لطالما أثارا الفزع، أولى هذه الملاحظات التي استدعت التفكير في سببهما. وكانتا أولى ظواهر الطبيعة التي تهرب من الخرافة إلى العلم حين أدرك كهنة بابل أن سقوط ظل الأرض على القمر هو ما يسبب خسوفه. وكان (طاليس) هو أول من تمكن، من الإغريق، من التنبؤ بمواعيد الكسوف استناداً إلى معرفته بعلوم البابليين التي عرف منها أن الكسوف يحدث كل 18 سنة و11 يوماً فيما عُرف لدى الكهنة الكلدانيين بدورة الساروس. ثم استنتج تلامذة (فيثاغورس) استناداً إلى ظلها المتكور على القمر أثناء خسوفه، أن الأرض كروية!
تاذاً بمكتبة الإسكندرية القديمة، حساب قطر كرة الأرض من خلال قياس الفرق بين طول ظل عمود في الإسكندرية وأسوان (اللتين كان يعتقد أنهما تقعان على نفس خط الطول) وقت الزوال خلال الاعتدال الصيفي يوم 21 يونيو، مقارنة بالمسافة بينهما، حيث استأجر مساحاً مدرباً لقياسها بالسير بمعدل خطو ثابت!
ومن فرق طول الظل قدر مقدار انحناء سطح الأرض واستنتج أن محيط كرة الأرض هو خمسون ضعف المسافة بين أسوان والإسكندرية، أي حوالي 40 ألف كيلومتر وهو رقم قريب جداً من تقديراتنا الحالية لمحيط الأرض!
ثم جاء بطليموس
كان (كلوديوس بطليموس) أبرز علماء معهد العلوم (الموسيون) بالإسكندرية في القرن الثاني الميلادي. وكان أكثر أعماله تأثيراً هو كتابه (التصنيف الكبير Megale Syntaxis) المعروف بـ(المجسطي) الذي برهن فيه على كروية الأرض وناقش ميل دائرة البروج وحاول تقدير أحجام الشمس والقمر والمسافة إليهما وكذلك تحديد مواعيد الكسوف والخسوف على أسس سبقه إليها الفلكي (هيبارخوس). وقد قدم بطليموس شروحاً معقدة لظاهرة شذوذ مدارات بعض الكواكب عما يفترض طبقاً لنظريته في مركزية الأرض. وهو النموذج الذي ساهم في تأخر علم الفلك لفترة زمنية ناهزت الألف عام، من خلال تبنيه بواسطة المجتمع العلمي العربي والكنسي الغربي على السواء، بحيث عُدت مخالفة أفكار بطليموس وأرسطو حول مركزية الأرض للنظام الشمسي هرطقة تستوجب الاستتابة وربما الحرق.
المراصد الإسلامية
انتشرت المراصد الفلكية على امتداد الإمبراطورية الإسلامية، منذ مرصد دمشق الأول على أيدي الأمويين ثم مرصد جبل قاسيون الذي أمر بتشييده الخليفة (المأمون) وغيرها في كل أنحاء العالم الإسلامي. وكان لهذه المراصد هدفان رئيسيان: أولهما هو رصد هلال مطلع الشهور القمرية اللازم للطقوس والاحتفالات الدينية، والثاني هو التنجيم ومعرفة طالع الخلفاء والأمراء.
وكانت أولى نجاحات الفلكيين المسلمين هي تصحيح اتجاهات القبلة في جُل المساجد التي شُيدت في الفتوحات الإسلامية الأولى. فمع تشييد المسجد الأقصى بالقدس عام 715م، تم توجيه محرابه وفقاً للمحور الكبير لمجمل البناء نحو الجنوب تقريباً، وهو ما جعل اتجاه قبلته منحرفاً عن اتجاه الكعبة الحقيقي، حتى حدد الفلكيون لاحقاً أن القبلة في القدس تقع على زاوية 45 درجة نحو الجنوب الشرقي.
نفس الخطأ تكرر في مساجد دمشق التي وُضعت قبلتها بالحائط الجنوبي، وليس بزاوية 30 درجة نحو الجنوب الشرقي الصحيحة.
وكذلك توجهت مساجد العراق وسمرقند نحو غروب الشمس في الانقلاب الشتوي. وفي مصر اتجهت قبلة أولى مساجدها التي شيدها (عمرو بن العاص) باتجاه شروق الشمس في الانقلاب الشتوي، وبقي هذا الاتجاه للقبلة معمولاً به طوال العصور الوسطى، حتى قام الفلكي (ابن يونس المصري) بتصحيح اتجاه القبلة في مساجد الفاطميين التي شيدت في عصره لتصبح قبلة القاهرة بزاوية 37 درجة من الجنوب الشرقي.
وقد تتلمذ جل الفلكيين المسلمين على نموذج بطليموس الفلكي في مركزية الأرض، ولم يخالف بطليموس سوى أصوات خافتة بدءاً من ثابت بن قُرة في القرن التاسع، مروراً بابن الهيثم في القرن الحادي عشر، وصولاً لابن الشاطر في القرن الرابع عشر الميلادي الذي صاغ منظومة حركات دائرية منتظمة للكواكب قدمت تحسيناً يكاد يكون مثالياً لنظرية بطليموس.
كانت كروية الأرض مستقرة في وعي المجتمع العلمي الإسلامي حتى أن (أبي حامد الغزالي) في كتابه الشهير (تهافت الفلاسفة) قد نأى عن إقحام الدين في تفسير ظواهر الطبيعة، فيقول عما لا يصدم فيه مذهب الفلاسفة الطبيعيين أصلاً من أصول الدين: (ليس من ضرورة تصديق الأنبياء والرسل منازعتهم فيه، كقولهم: إن كسوف القمر عبارة عن انمحاء ضوء القمر بتوسط الأرض بينه وبين الشمس، والأرض كرة والسماء محيطة بها من الجوانب، وأن كسوف الشمس، وقوف جرم القمر بين الناظر وبين الشمس عند اجتماعهما في العقيدتين على دقيقة واحدة. وهذا الفن لا نخوض في إبطاله إذ لا يتعلق به غرض، ومن ظن أن المناظرة في إبطال هذا من الدين، فقد جنى على الدين، وضعف أمره، فإن هذه الأمور تقوم عليها براهين هندسية حسابية لا يبقى معها ريبة. فمن تطلع عليها، ويتحقق أدلتها، حتى يخبر بسببها عن وقت الكسوفين وقدرهما ومدة بقائهما إلى الانجلاء، إذا قيل له هذا على خلاف الشرع، لم يسترب فيه، وإنما يستريب في الشرع، وضرر الشرع ممن ينصره لا بطريقة أكثر من ضرره ممن يطعن فيه بطريقة. وهو كما قيل: عدو عاقل خير من صديق جاهل).
العدسات التي قربت البعيد
بينما كان (نيكولاس كوبرنيكوس Copernicus) يرقد محتضراً على سريره عام 1543 ممسكاً بأول نسخ كتابه الثوري (ثورة الأفلاك السماوية) الذي قدم فيه حسابات رياضية كاملة للكواكب مجتمعة في نظام كوني جديد تدور الأرض بمقتضاه مع باقي الكواكب حول الشمس. ولم يتسن له البرهنة على حساباته إلا مع اختراع التلسكوبات.
كانت أول إشارة للقدرات المكبرة لكرة من الزجاج قد جاءت على يد (الحسن بن الهيثم) في كتابه (المناظر). وربما التقط (روجر بيكون) الذي كان على دراية بعلوم الأندلس حيث كانت تدرس أفكار ابن الهيثم، الفكرة منه وقدمها في كتابه (العقل الأعظم) سنة 1266 حين شرح طريقة تكبير الكتابة بوضع قطعة كروية من الزجاج على الكتاب بحيث يكون سطحها المستوي إلى أسفل.
بفضل العدسات المكبرة تم اختراع المناظير Telescopes لنشاهد العالم البعيد عنا ونرى تفاصيله التي لم نكن ندركها، وكذلك المجاهر Microscopes التي كبرت العالم الصغير جداً الذي كان يقع دوماً تحت أعيننا دون أن نبصره.
وبحلول عام 1300 تم اختراع النظارات في فلورانسا. وفي عام 1608 اخترع الهولنديان (هانز ليبرشي) Hans Lippershey و(زكارياس جانسن) Zacharias Jansen التلسكوب. وهو الجهاز الذي سمع به (جاليليو جاليلي) أثناء إقامته في البندقية عام 1609، وعمل على تصنيعه فور عودته إلى بادوا وحسنه حتى تمكن من رصد أجسام تدور حول كوكب المشتري. وكانت هذه هي المرة الأولى في التاريخ التي يتم فيها رصد أجسام تدور حول أي كوكب آخر بخلاف الأرض.
وقد رفض أساتذة الفلسفة المدرسية المعاصرون لجاليليو النظر في تلسكوبه لأنه بزعمهم يظهر أقماراً تدور حول المشتري في مخالفة صريحة لتعاليم أرسطو وبطليموس التي تنص على أن كل شيء يدور حول الأرض، مما يعني بزعمهم أن التلسكوب ينطوي على خدعة ما!!
وبالمثل صنع (كبلر) تلسكوبه الخاص عام 1611 الذي تمكن به من رصد حركة المريخ وبعض الأجرام السماوية، ليعلن بعد ثمان سنوات عن تدعيمه الكامل لنموذج (كوبرنيكوس) الفلكي بصياغة قوانينه حول حركة الكواكب. بما تضمنه ذلك من تفسير ظاهرة التراجع غير المفهومة في حركة بعض الكواكب الملحوظة بسماء الأرض حين استبدل المدارات الكروية المفترضة لها بأخرى بيضاوية!
وبفضل قوانين كبلر يمكننا الآن تفسير اختلاف طول اليوم الأرضي المعتمد على الدوران اليومي للأرض من شهر لآخر. فقد بينت القياسات الفلكية الدقيقة أن طول الأيام الحقيقية يتغير دائماً. ففي يناير وفبراير، تكون الساعة الأرضية الفعلية (المقاسة بسرعة دوران الكوكب حول محوره) متأخرة بمقدار ثانية واحدة عن الساعة المقاسة بأجهزة القياس الفلكية الدقيقة. وفي مايو تكون متقدمة، وفي يوليو وأغسطس تؤخر ثانية، أما في أكتوبر ونوفمبر فتقدم من جديد. ويرجع هذا الفرق لعدم انتظام دوران الأرض حول محورها بفعل دورانها في مدار بيضاوي حول الشمس. ونتيجة لهذا المسار تكون الأرض في بعض الأحيان أقرب إلى الشمس وفي أحيان أخرى تكون أبعد وبالتالي تتحرك أسرع أو أبطأ.
ولكن ها هو (جاليليو) يُجبر بواسطة محاكم التفتيش البابوية في عام 1633 على التوقيع على عريضة يتبرأ فيها مما أعلنه عن نظرية مركزية الشمس معلناً إيمانه التام بفهم الآباء الكاثوليكيين للكتاب المقدس. حفاظاً على حياته، ويقضي سنواته الأخيرة تحت الإقامة الجبرية بمنزله!
في رسالة وجهها (ديكارت) لمارين ميرسين Mersenne عام 1629 اشتكى من جمود رجال الدين بقوله: (لقد أخضع اللاهوت لفلسفة أرسطو إخضاعاً يكاد يتعذر معه شرح أي فلسفة أخرى دون أن تبدو أول الأمر مخالفة للدين). ومن ثم تقع تحت طائلة عقاب محاكم التفتيش بتهمة الهرطقة!
كان (ميرسين) يرى أن الكنيسة إذا أرادت البقاء في ظل هجمات العلم الحديث وشكاوى المهرطقين، فإن عليها أن تقبل وتمتص النظرة القائلة أن العالم ميكانيكي. ويمكن للرب أن يحكم الكون الذي يتبع القوانين الطبيعية التي خلقها بمثل السهولة التي يحكم بها كوناً مركزه البشر. ولو أنك فكرت قليلاً، فلم لا يستطيع الرب ذو المعرفة الكلية أن يخلق كوناً يعمل تلقائياً من دون صيانة.
ومع بدء عصر انطلاق البشر وأقمارهم الصناعية للفضاء في القرن العشرين فقد تأكدت كروية الأرض برأي العين، ولكننا ما زلنا لا نعدم سماع صوت أولئك الذين يصرون على أن فكرة كرويتها ما هي إلا مؤامرة!