لا يستطيع زائر مدينة الجزائر العاصمة تجاهل قصر رياس البحر، ذلك الحصن التاريخي الرابض على شواطئ البحر المتوسط ليشهد على تاريخ الجزائر منذ عام 1576م. ذلك القصر الذي يروي تاريخ الجزائر كقوة بحرية ضاربة تروى عنها الأساطير والحكايات في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وكيف كانت الشبح الذي يهدد الصليبيين، حتى أن الولايات المتحدة الأمريكية عام 1776م، قد وقعت مع الجزائر معاهدة لكي تحمي سفنها من هجمات (رياس البحر).
(رياس البحر) كان لقباً يطلق على كتائب القراصنة البحريين الذين اعتمدت عليهم الدولة العثمانية في صد الهجمات الصليبية على شمال أفريقيا. وهي فئة من المقاتلين الذين ينجحون في أداء الاختبار الذي يعد من قبل مجموعة من رجال البحر ذوي الخبرة والحنكة في فنون الملاحة، ويكون الشخص المتطوع في أغلب الأحيان ممن عمل سابقاً في مجال البحر وركوب السفن كي يمنح بعد نجاحه لقب (ريّس) ليقاتل العدو في البحر بعد توليه قيادة سفينة أو مركب بصفة مالك أو قائد.
كان الرياس من أصول أوروبية وينتمون إلى جزر (أيبيريا وكورسيكا وفينيسيا وجنوه ونابولي وعدد منهم يونانيين)، أما البحارة الأتراك فقد كانوا أقلية، ويعتمد رياس البحر في تمويلهم على الخزينة العامة وغنائم المعارك البحرية. وكان من أشهر رياس البحر: حسن قورصو، والرايس حميدو ومراد رايس الذي كان هولندي الأصل.
يتميز القصر المعروف أيضاً باسم (الحصن 23) بموقع فريد بالجزائر العاصمة، يطل على البحر المتوسط، ويقع بالقرب من ساحة الشهداء بوسط العاصمة، ويعد امتداداً طبيعياً لمنطقة القصبة، التي تمثل البلدة القديمة بالعاصمة الجزائرية، وكلاهما (القصر والقصبة) يدخلان ضمن تصنيف التراث العالمي لمنظمة اليونسكو منذ العام 1990م.
ظهر الحصن للوجود عندما شيد حاكم الجزائر العثماني الداي رمضان باشا برج الزوبيا سنة 1576م، لتعزيز دفاعات المدينة المنخفضة، وبُني الحصن في منطقة تسمى (قاع السور) (حي السور السفلي)، وكان أشهر المقيمين فيه الرايس مامي أناؤوط، أشهر رياس البحر (قادة القوات البحرية) في نهاية القرن 16، وكان إقامة رسمية لكثير من رياس البحر، بالإضافة إلى كونه حصناً لصد محاولات الاحتلال.
وأقيم الحصن على مساحة 4 آلاف متر ويضم ثلاثة قصور: قصر 17 وقصر 23، وقصر 18 بالإضافة إلى مصلى كانت تؤدى فيه الصلاة، ويعلم فيه القرآن، وبيوت للبحارة.
وزُوّد الحصن البحر بسقف مُجهز ومدعم ليسع عدداً كبيراً من المدافع الكبيرة المصوّبة نحو البحر لاستهداف سفن الغزاة التي تحاول الاقتراب من السواحل الجزائرية، وهو الدور الذي أداه الحصن بنجاح، حتى فطنت فرنسا لهذا الأمر فأرسلت قواتها من منطقة ميناء سيدي فرج جنوبي الجزائر العاصمة لتتمكن من احتلالها عام 1830م، خصوصاً بعد تحطم الأسطول الجزائري في معركة (نافارين) الشهيرة عام 1827م.
وبعد الاحتلال الفرنسي للجزائر، حاول الاستعمار طمس دور القصر التاريخي، فأصبح قصر 18 بالحصن مقر إقامة لقائد الهندسة المدنية، ثم مدرسة داخلية للبنات، ثم مكتب القنصلية الأمريكية، ثم مكتبة البلدية.
وبعد استقلال الجزائر في عام 1962م، احتلت أسر جزائرية الموقع التاريخي وتعرض إلى بعض التغييرات، التي ألحقت أضراراً بالمبنى، كما تأثر المبنى بالعوامل المناخية جراء وجوده على ساحل البحر، مما هدده بالانهيار، قبل أن تتدخل وزارة الثقافة الجزائرية عام 1980م، بترميمه، وتحويله إلى مركز الفنون والثقافة في قصر رياس البحر، حيث استمرت أعمال الترميم بين عامي 1987م، و1994م، حين تم افتتاحه للجمهور كمزار سياحي وثقافي فريد.
ويعد قصر 18 أفخم مباني الحصن، إذ شيد بحجر المرمر ما بين القرنين السابع عشر والثامن عشر، ويقع في مدخل الحصن، ويتميز ديكوره وزخرفته بالطابع العثماني، أما القصر 23 فهو أيضاً له طابع معماري مميز، إلى جانب إطلالته الفريدة على مدينة الجزائر العاصمة من ناحية وعلى البحر المتوسط وميناء الجزائر من ناحية أخرى، بينما يتميز القصر بزخارف معمارية بسيطة وبعض الآثار الرومانية.
تشكل هذه القصور مجتمعة رياس البحر، إلى جانب ستة مساكن للبحارة، متناسقة في تركيبتها العمرانية رغم بساطتها، وبالقرب منها نجد مصلى يحوي محراباً، وقاعة لأداء الصلاة، وغرفة كان يعلم فيها القرآن. حتى هو لم يسلم إبان الاحتلال ليصبح مخزناً للحبوب، وبعدها تحول لأغراض عسكرية، قطنت فيه عائلات جزائرية بعد الاستقلال.
المتأمل للقصر يدرك أنه لا يختلف كثيراً عن قصر خداوج العمياء والداي مصطفى، وتتكون القصور الثلاثة التي تسمى حصن رياس البحر من السقيفة، وسط الدار، والسطح، إذ إن السقيفة يدخل إليها الضوء من خلال نوافذ ضيقة بينما وسط الدار مكشوف لدخول الهواء، وينقسم الحمام إلى قاعتين للمياه الباردة، وأخرى للساخنة، مرفقاً بآبار لصرف المياه إلى جانبه المطبخ التقليدي.
وتتميز الزخرفة داخل القصر بأشكال أقواس منكسرة، ونصف دائرية التيجان، بالإضافة إلى زخارف على شكل أزهار القرنفل وشقائق النعمان. وبعد ترميم القصر، أصبح متحفاً وتم تدعيمه بمجموعة من الوثائق التي تحكي واقع الفن والتاريخ، وعلم الآثار.