من مأثورات اللهجة المصرية القولية: (نداءات الباعة الجائلين)؛ ذياك الخلوب الماتع الذي يصنف ضمن نطاق الأدب النثري؛ وإن خرج من النثر إلى الشعر أحياناً، فمنه ما هو ثابت ومنه ما هو متغير؛ لكنهما معاً الثابت والمتغير في نداءات الباعة الجائلين قطعة فنية نادرة، إذا استيقظت على أنغامها في يوم من الأيام، ستظل ذكراها عالقة بقلبك وآخذة بوجدانك أمداً بعيداً.
نداءات الباعة الجائلين تُعَدُّ باباً ساحراً من أبواب المأثورات الشعبية، ومن فنون الأدب الشعبي القولية، حيث إن الأدب الشعبي العربي يضم مجموعة من الأشكال الفنية والموضوعات الأدائية؛ ومن أشكاله: القصص الشعبي بأنواعه وبخاصة السير الشعبية والملاحم والقصص والخرافات والأساطير والحكايات وخيال الظل والأراجوز؛ ومنها كذلك: الحكم والألغاز والنكت والأمثال والنوادر والنداءات التي تضم نداءات الباعة والمهنيين وناشدي الضالة والإخباريين الجوالين؛ ومنها: الأغاني والمدائح والأذكار والرُقَى والتعابير والأقوال السائرة والشعر الصوفي.. إلخ.
فالنداءات من فنون الأدب الشعبي التي تتوافر لها طلاوة الأسلوب والأداء المنغم، مضفرة بتمثيلات مشوقة لترويج البضائع.
ونداءات الباعة الجائلين لا تعد من التراث إلا إذا كانت بليغة، وذات لحن غنائي؛ ويحدد رشدي صالح دلالة هذا الشكل الشعبي بقوله: (إن نداءات الباعة الجوالين تدخل في فنون النثر الأدبية، متى توافرت لها الإجادة وطلاوة الأسلوب، ويحفزنا إلى ذلك أنها تمثل ناحية من انفعال رجل الشارع وهو يستخدم اللغة لتشويق جمهور عام واستمالته).
ويرى محمد الجوهري أن النداءات أحد الأساليب التي يستخدمها الباعة الجائلون أو باعة الأسواق لترويج سلعهم، وهو أسلوب له جذوره التاريخية.. هذه النداءات شأنها شأن الفنون الشعبية الأخرى يخالطها شيء من الموسيقى والتمثيل أحياناً.. (فالباعة الجائلون) ينفقون من جهودهم في إلقاء الأغاني والتهريج أكثر مما ينفقون في المساومة على بيع سلعهم.
وعلاقتي بنداءات الباعة الجائلين قديمة جداً قدم السقاء الذي كان يمر من الطريق الذي يتفرع عنه شارعنا منادياً بكلمة واحدة فقط، نداءً مكتنزاً بالسحر: (كوثر)، إشارة تحمل دلالات متعددة، فهو يشير إلى أن الماء الذي معه من نهر الكوثر، وأيضاً يتضمن نداءه إشارة إلى أنه يحمل من ماء النيل الذي ينبع من الجنة كما ورد في الحديث الشريف؛ لفظة واحدة تغنيك عن قصائد من الشعر في الماء والقربة والسقاء، ويتجلى لي عند مشافهة السقاء أن الكلمة لم تكن عابرة عندما أسرعُ إليه كالمجنون وفي يدي كوب الماء المصنوع من الألمونيوم تارة أو الكوب المصنوع من الصاج المطلي باللون الأبيض وعلى حوافه رسومات وزخارف نباتية باللونين الأحمر والأزرق؛ فيملؤه لي قائلاً (طيب.. يا أبو الناظر.. طيب)، وربما يقصد نداءً آخر كنا نسمعه قديماً أيضاً يتشكل من كلمة واحدة كذلك: (الطيب)، فعندما نسرع إلى بائع البطاطا، كان يقول: (الطيب للطيب)، أو أن ينادي بما هو أقل من كلمة مثل بائع الروبابيكيا الذي يختزل اسمها في نصف اللفظ (بيكيا)، وهناك من الباعة الجائلين من يكثف علاقته باللغة فينادي بجملة كاملة: (مجنونة يا قوطة)، وهو بائع الطماطم الذي نجح بكل تأكيد في إلصاق تلك التهمة المحببة إلى نبات الطماطم الفاكهة المختبئة في شكل خضار، ومن الباعة مَنْ عمَّق علاقته باللغة على نحو أكبر وبنى صروحاً من المتعة التي لا يقدر الزمن أن ينال منها مثل بائع الروبابيكيا وجامع العاديات القديمة، الذي كان ينادي على بضاعته طالباً من الناس بقاياهم الجلدية والبلاستيكية وغيرها بأسلوبه الساحر وصوته الندي، قائلاً:
أنا عِنْدِي كُبَّاية إيزي إيزي
تِقْرَا عَربي وإنجليزي
بِالمَرْكُوبْ القديم
مستخدما السحرية والعجائبية في صوغ مقطوعته الغنائية فالكوب (سهل سهل) (إيزي إيزي Easy, Easy)، وهو يبيعها وحسب بالنعال القديمة التي تسمى في مصر (المركوب)، والمركوب كناية عن عدم استخدام أهل مصر في الغالب للمواصلات من الدواب وغيرها وأنهم يركبون أقدامهم إلى جهاتهم التي يرغبونها ويسمون ذلك تندراً (موتو-رِجْل).
وللحافلة نصيب كبير من نداءات الباعة الجائلين في القاهرة بدءاً أو انتهاءً بمن يقول: (معانا اللبان واللي ما بانشي)؛ فيستخدم البائع هنا الجناس والمناقضة بين (العلكة/اللبان)، وهو صوتياً يمكن سماعه: (اللي بان)، أي (الذي ظهر)، و(اللي ما بانشي/أي الذي لم يظهر)، فهو هنا يراهن على اللغة، بينما يراهن غيره من الباعة الجائلين باللغة على الأداء والدور الذي تؤديه السلعة:
أنا معايا الفَلاَّيَةْ
تْطَلَّعْ القَمْلايَة
دَكَرْ وِنْتَايَةْ
بربع جنيه
الفلاية نوع من أنواع الأمشاط الخشبية قصيرة الطول مزدوجة لها حدان (مشطان)، وهي خاصة بالنساء، و(القملاية) أنثى حشرة الرأس (القمل)، ووصفها البائع بأنها من النوعين الذكر منها والأنثى. ومن نداءات الباعة الجائلين العجيبة المدهشة في مصر نداء قديم عن (شَرْبَةْ) تسمى (شربة الحاج محمود) ذكره لي الصديق الدكتور أحمد مختار مكي، والشربة نوع من أنواع العلاج تستخدم للتداوي من أمراض البطن وتيسر لشاربها التخلص من ديدان البطن وعوالق الجهاز الهضمي؛ يقول النداء:
شَرْبَةْ الحج محمود.
معانا شربة الحج محمود
تشرب شربة الحج محمود تطلع الدود
تشرب الدود تطلع شربة الحج محمود
تشرب الشربة والدود تطلع الحج محمود
بربع جنيه
فالبائع هنا يستخدم التكرار والإغماض والتدوير ليثير وعي ووجدان التلقي في أماكن ليس من السهل أبداً أن تستثير فيها وجداناً باللغة وإن أوتيت مجامع الكلم، ومثله بائع (الكريم) الذي ينادي على سلعته بقوله:
كريم أم عطية
يخلي البشرة مندية
كأنك لسة مستحمية
كريم أم عطية
يخلي العجوزة صبية
والفلاحة بندرية
وربما عول البائع على المفلس الذي لا يستطيع الشراء بأوصاف يستحث بها من يملك الثمن أن يتقدم بفخر ليشتري تلك الفاكهة الجميلة ويُمتع بها نفسه ويسعد، وفي الوقت نفسه يثبت للآخرين أنه ليس مفلساً:
عنب وتين والمفلس حزين يا عنب..
ومن الباعة من يميل إلى السفاهة وتحدي السوق والمشترين، للحد الذي يسب معه بضاعته، منهم من يقول:
معانا النعناع
يودر الصحة ويجيب الكحة
بربع جنيه
ومعني (يْوَدِّرْ) أي يُضيّع الصحة، وهي عبارة على العكس من ظاهرها الذي ربما يتوقع القارئ أنه يبعد عنه الزبائن؛ لكن الأمر على عكس ذلك، إذ يتلقاها الشارع المصري بوصفها طرفة جيدة ومزحة ماتعة، فيُقبل على البائع، وكثير ممن يُقبل عليه يشترون منه فعلاً، ظناً منهم أنه يتصنع الخلط والخطأ ويصلهم أو يصلون هم لوعيهم المقصود القياسي من الجملة الوهمية التي يسمعونها أنفسهم دون سماعها: (يودر الكحة ويجيب الصحة)، فهم يعرفون عن حلوى روح النعناع أنه يوسع الشعب الهوائية والبائع يعرف ما يعرفون لأنه فرد ضمن نسيج المجتمع، ويضاف إلى معرفته ثقته في بضاعته أنها ستباع وإن كان النداء سفيهاً أو مُذِماً.
ويستخدم الباعة في الترويج لسلعهم الاقتباس من الأغاني المشهورة والغزل في البضاعة المعروضة إن كانت من نوع باعث على ذلك مثل نداء بائع التفاح:
يا أحمر يا تفاح
يا (جفنه علم الغزل)
يا خده علم الخجل
يا سفاح يا تفاح
ومما فيه غموض ربما غير مبرر لي على الأقل، أن ينادي البائع على الخيار: (يا ابتاع النيل يا لوبيا)، فيكني عن الخيار باللوبيا، ربما لأنها مكتنزة بالماء في بنيتها ولها طراوة وسهلة الكسر، ونسبته إلى النيل إشارة إلى العذوبة والرواء.
وتحتفظ الذاكرة الشعبية بالعديد من النداءات القصيرة، منها: (المشمش استوى وطلب الأكال)، وهناك نداءات مركبة ينادي فيها البائع على سلع منوعة وكثيرة ويجعل لكل نوع منها نداء يُعد لبنة ضمن البناء الكلي للنداء الكبير للتاجر، ومن ذلك نداء:
الورد كان شوك من عرق النبي فتح
يا تمر حنة رحلنا من منازلنا
يا خوخ خانونا الحبايب واحنا لم خُنا
لمون لامونا العوازل واحنا ما لمنا
يا نبق نبقاش حبايب زي ما كنا
يا صبر نصبر على اللي راح ولم جالنا
الملح في عين اللي ما يصلوا على سيدنا
وتتنوع النداءات بين نداءات باعة ونداءات حرفيين ونداءات ناشدي الضالة، وهناك نداءات الباعة الجوالين ونداءات باعة القطارات والحافلات ووسائل المواصلات، وإن كانت تلك النداءات اتسمت بسمعة غير منزهة وتستخدم طرق غير شريفة في التعامل مع الجمهور، لكن كل هذه النداءات تشترك في نزوعها جميعاً إلى استغلال الطاقات الفنية للبائع نغماً وبلاغة، حيث يتوقف تأثيره على جمهوره بحسب درجة قوته في اختيار ألفاظه وتناغم كلماتها واتساق تعبيراته ودقتها في التعبير عن رغبته في الترويج لسلعته، ولعل من سمات قوة النداءات اختراقها التاريخ منذ حقبة ساد فيها التجوال على الإقامة والاستقرار، إذ ظهرت النداءات تاريخياً في حقبة تسبق ظهور التجارة المقيمة في مراكز ثابتة، على الرغم من ممارسة البيع من خلال إقامة مؤقتة في الموالد والنزول في النجوع البعيدة المتطرفة، وحالت الأحوال وقرت التجارة لكن سحر النداءات لم يتحول وظل مقيماً في روح الجمهور ووجدانه.