إن الوصول للنقطة الصفرية (نقطة تحديد البدايات) Zero-point جائز -نظرياً- في العلوم العملية، ولكن الوصول لتلك النقطة في العلوم الإنسانية صعب جداً. ورغم أهمية الوصول لتلك النقطة التي تتيح لنا معرفة أفضل بحياتنا، إلا أنه من الصعوبة بمكان تحديد تلك النقطة للأمثال الشعبية مثلاً، أو الحكايات الشعبية، أو لمعتقدٍ ما.. إلخ، وذلك لأن الشعبي يمارس أفعاله وتصرفاته كما يريد، ولا يعنيه التدوين الذي قد يفطن إليه بعد أن تضيع معالم تلك البدايات. والأمثال Proverbs: (مرآة تصف الأخلاق، والعادات، والتقاليد، والسلوك الجمعي الخاص لفئةٍ، أو جماعةٍ، أو شعبٍ من الشعوب). وتعبِّر الأمثال عن حاجات ملحة وحيوية لأفراد المجتمع الذي تنشأ فيه، ولا شك أن هذا ينشأ لتراكم خبرات حياتية متنوعة على مر الزمن، كما أنها تنتقل من جيلٍ إلى جيل. وهذا ما يعطي الأمثال القدرة على اختراق حاجزي الزمان والمكان، واحتلال العقول ليستمر المثل ما دام يؤدي وظيفة ويشبع حاجة.
والأمثال: نوع من أنواع الأدب يمتاز بإيجاز اللفظ، وحسن المعنى، ولطف التشبيه، وجودة الكناية، ولا تكاد تخلو منها أمة من الأمم. ومن أهم ما يميز الأمثال الشعبية أنها تنبع من وجدان الناس، تعبيراً عن ممارساتهم اليومية. والحقيقة أننا نستطيع أن نعرف الكثير عن أخلاق الشعوب من خلال تتبع أمثالها الشعبية. ويرى أحمد رشدي صالح أن المثل هو: الأسلوب البلاغي القصير، الذائع بالرواية الشفاهية، المبيِّن لقاعدة الذوق، أو السلوك، أو الرأي الشعبي، ولا ضرورة لأن تكون عباراته تامة التركيب بحيث يمكن أن تطوي في رحابه التشبيهات، والاستعارات، والكنايات التقليدية.
لقد نشأ الإنسان منذ أمدٍ بعيد وسط طبيعةٍ قاسية وشيئاً فشيئاً عاش بين جماعات شكَّلت الطبيعة أخلاقهم، وعاداتهم، وممارساتهم اليومية التي تتغير وتتطور ولكنها تظل أبداً باقية، لا يستطيعون منها فكاكاً، إذ يظل الإنسان أسيراً لها ويتحرك في إطارها، فالعادات والتقاليد، والأمثال.. وغيرها تشكل سياجاً للمجتمع يتحرك في إطارها ولا يستطيع تجاوزها، وإلا تعرض لعقاب الجماعة الذي يتفاوت من جماعة لأخرى بين اللوم والتأنيب، والتحقير، أو العقاب المادي الذي قد يصل في نهاية الأمر إلى وصول -الخارج عن إطار الجماعة- إلى أن يصبح مديناً للمجتمع بأثره، وقد يصل الأمر إلى حد الإبعاد عن المكان. ومما لا شك فيه أن الأمثال الشعبية تخترق حاجزي الزمان والمكان لما لها من قدرة على الوصول إلى عقول وقلوب الناس لقِصَرِ جملها، وسهولة ألفاظها التي تصل إلى جميع فئات المجتمع. وبعد، نستطيع أن نقول إن الأمثال الشعبية هي: (محاولة فكرية لتجريد الواقع إلى مطلق لإظهار المضمون من خلال مقولة محددة). ولا يعدم الإنسان وسيلةً للتعبير عن مجريات حياته اليومية، والأمثال إحدى الوسائل التي يعبر بها الإنسان عن آماله، ورغباته، وعاداته، ومعتقداته.. إلخ، بكلماتٍ بسيطة، وجملٍ قصيرة، يعبر بها عما يريد بحيث تصل إلى المتلقي أياً كانت درجة ثقافته، أو موقعه الاجتماعي. ويزخر المأثور الشعبي المصري بالكثير من الأمثال التي تعبر عن العين (النظرة) (انظر ملحق الأمثال). ومن العجيب أن يحسد ذو سعة من هو أقل منه شأناً ومالاً (أبو ألف حسد أبو ميه)، (أبو جَمل حسد أبو مِعزة).. ولكي تتقي شر العين يجب أن تعطي مما تُحسَد عليه (أطعم الفم تستحي العين) فهي تؤثر في الحجر والشجر (العين فلقت الحجر)، ولهذا يحرص الإنسان دائماً على أن يمارس حياته في طي الكتمان كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً، (داري على شمعتك تقيد). ويجد الشعبي مخرجاً من كل هذا لينعم بحياته (غير من جارك ولا تحسده)، وذلك لأن العائن لن ينال خيراً (عمر الحسود ما يسود). ويتمنى الشعبي لو وضع عوداً في عين الحاسد، وهذا العود قد يكون مسماراً، أو إبرة، أو (شطاية) يفقأ بها عينه فتكف عن أذى الناس.
والتعبيرات الشعبية People›s expressions: عبارات يرددها الناس وتؤثر فيهم بدرجة ما، ولكنها لا ترقى لدرجة تأثير الأمثال في وجدان الناس، ولا تعتمد بالضرورة على ما يميز المثل من محسنات بديعية. ويخشى الإنسان على نفسه من العين وشرها، فيقترب من الدين ويمزجه بأمثاله وتعبيراته ليعطيه مسحة يقبلها المجتمع (العين صابتني ورب العرش نجاني)، وفي الصلاة على النبي وقاية من تلك العين، وإلا فالملح هو الذي سيدفع هذا الضرر، لأننا سنضعه في عينك يا عائن. ويتودد الشعبي إلى العائن إذا كان صاحب مشروع أن كفى ضرراً فلديَّ من الديون ما يجعلك تعطف عليَّ ولا تحسدني (قبل ما تحسدوني سيبوني أسدد ديوني)، فالعين تترك أثراً في المعين (الإيد تسلم والعين تعلم).
وكثيراً ما نرى تلك الأمثال والتعبيرات مكتوبة على أشياءٍ يعتقد صاحبها أنها قابلة للحسد: سيارات الأجرة، مقطورات النقل الثقيل، عربات الكارو، والعربات الصاج التي تحمل السباخ من الغيط إلى السوق، ويجد الشعبي في هذه المأثورات وقاية لعكازه (العربة الصاج والحمار) الذي يقيه شر الحاجة. ولا يقتصر وجود الأمثال والتعبيرات على ما سبق فقط، بل يمتد ليشمل كل ما هو أثير لدى الإنسان.
المعتقد، إذن، كامن في الصدور دون راق محدد سلفاً. ووجود تلك الأشكال والرموز التي تُعَلَق على الأشياء المحببة إلينا، أو في البيوت تلفت النظر إليها بعيداً عن الإنسان وما هو أثير لديه.
وتُعَدُّ الأمثال، والتعبيرات الشعبية تعبيراً وافياً، وملخصاً لأفعال وممارسات يومية لمجموعة من الناس في محيط جغرافي محدد بعباراتٍ وألفاظٍ ثاقبة. والحقيقة أن هذا الإيجاز يعتبر تلخيصاً لحكمة الشعب التي لم تأت بين عشية وضحاها، إنما هي نتيجة لتراكمات هائلة من العادات والتقاليد، والمعتقدات والمعارف.. التي عاشت في ضمير تلك الجماعة حقباً متلاحقة مكنتها من الإيجاز في مفرداتها لتصبح جزءاً مهماً من ثقافتها، ويعاقب -عرفياً- من يتجرأ على تخطيها، أو المساس بها. ويتدرج العقاب الشعبي، ويكون النبذ، وتجنب من تجرأ على تجاوز تلك القواعد والمعايير التي وضعتها الجماعة سياجاً يحمي أفرادها؛ جزءاً أصيلاً من العقاب والردع.
وتغطي الأمثال، والتعبيرات الشعبية جميع مناحي الحياة لتشكل في النهاية ملمحاً أساسياً لثقافة المجتمع. والمدقق في هذه الأمثال والتعبيرات يجد أن انتشارها لا يقتصر على فئة، أو طبقة معينة، بل يمتد انتشارها ليشمل الجميع، فالمعتقد كالهواء نتنفسه، يتخلل ثنايانا ويحيط بنا من كل جانب. وقد يتبرأ منه البعض على اعتبار أن انتسابه إلى معتقد ما، أو انتساب هذا المعتقد إليه عيباً. وسرعان ما تتكشف الحقيقة بممارسات وأقوال تعد تعبيراً لا يقبل الجدل حول تغلغل هذا المعتقد، أو ذاك بداخل الإنسان منذ نعومة أظفاره. ولهذا يخشى الإنسان دائماً العين وآثارها التي تخلفها، ويتمنى ألا تطاله بأذى فهي قد تصيبه بضرر، بل قد تقضي عليه (العين يا تتلف يا تقصف)، لأنها تأتي من جهنم بنار حارقة. ويطلب الإنسان ممن ينظر إليه، أو إلى ثمين لديه أن يتلطف به وبأشيائه الأثيرة (زوجة، أولاد، مال، عقار..) (بص بعينك وارحم بقلبك). غض الطرف عني، ودعني أسدد ما عليَّ... (كفاية أرّ علينا إحنا بينا اللي مكفينا).
ويحرص الشعبي دائماً على التمسك، أو قل التمسح بأطراف الدين ليعطي تعبيراته وأفعاله قدراً من الشرعية التي تريحه نفسياً، وتجعله مقبولاً بين أقرانه (عين الرب ستارة وعين العبد غدارة)، (حصوة في عين اللي ما يصلي ع النبي). ويعدد الشعبي أوصاف هذه العين فهي: مدورة، زي السم، نارية لأنها تأتي من جهنم، حادة وتصيب في مقتل، ولذا فهو يستعيذ من عين (الرجل) العائن، لأنها المنقرة التي يحفر بها نُقَر (جمع نُقرة) للزرع، يقتلع بها الحشائش، ومن عين «المرأة» التي هي أحد من الشرشرة التي تجتث البرسيم، ومن (عين الجارة) التي تشبه الفارة فتزيل كل خير ظاهر، ومن (عين الولد) التي تتطلع لهم فهي تشبه الوتد الحاد. ويدعو المعين على العائن، ويتمنى (تخزيق) عينه القادرة التي تستحق طلقة رصاص ليستريح منها الناس (عينه -عينها- تندب فيها رصاصة).
ملحق الأمثال والتعبيرات الشعبية
- أبو ألف حسد أبو مية.
- أبو ميه حسد أبو تنية.
أي صاحب مئة من الغنم يحسد صاحب شاة واحدة. (معنى التنية بكسرتين) أي عمرها سنتين، والعرب تقول: ثنية بفتح فكسر للشاة في الثالثة.
- أبو جمل حسد أبو معزة.
- أطعم الفم تستحي العين.
- القَرعَة تحسد أم الشعور.
- العمشة تغير من أم كحلة.
- العين لما تقوى تبقي حجر.
- العين فلقت الحجر.
- الحسود تعبان.
- بيحسدوا الغجر على ضل السجر.
- حسدتني جارتي على طول رجليه.
- حسدني البين على كبر شواربي.
- حط إيدك على عينك، زي ما توجعك توجع غيرك.
- حسدوا العُمْي على قعادهم في الظلام.
- حسدوا الفقير على الحصيرة.
- داري على شمعتك تقيد.
- ربنا مايجعلناش جار وله عنين.
- عين الصافية ما خلت عافية.
- عين العدو تبان ولها زبان.
- عيني فيه وتْفُو عليه.
- عمر الحسود ما يسود.
- عين الحسود فيها عود.
- عضة أسد ولا نظرة حسد.
- غير من جارك ولا تحسده.
- محسدنهمش على أكل الشوي والرقاق، ويحسدونا على نوم الزقاق.
- يحسدوا العريان على شراية الصابون.
- يحسدوا الأعمى على عيونه الواسعة.
- يا ناس يا شر كفاية أر.
- العين يا تتلف يا تقصف.
- العين صابتني ورب العرش نجاني.
- العين دي من جهنم.
- الإيد تسلم والعين تعلم.
- العين شر.
- إبعد عني عيونك.
- بص بعينك وارحم بقلبك.
- حصوة في عين اللي ما يصلي ع النبي.
- عينك زي الصقر.
- عيني عليك باردة.
- كتير ممكن يقلدوني كبيرهم يحسدوني.
- قبل ما تحسدوني سيبوني أسدد ديوني.
- كفاية أر علينا إحنا اللي فينا مكفينا.
- متبصليش بعين رضية، وشوف اللي اندفع فيا.
- عينه (عينها) مدورة.
- عينه (عينها) زي السم.
- عينه (عينها) عايزة تتخزأ.
- عينه (عينها) تندب فيها رصاصة.
- عين الرب ستارة، وعين العبد غدارة.
- عين الراجل فيها مناجر.
- عين المرة أَحَدّ من الشرشرة.
- عين الولد فيها وتد.
- عين الجارة فيها فارة.
- عين البنت فيها مشط.
- يا عينك يا جبايرك.
- من العين يا رب سلم.
- يا اااه.... انت شايف لحد هناك كده.
وأخيراً يتعايش الإنسان مع الأمثال والتعبيرات الشعبية منذ نعومة أظفاره، تعينانه على الحياة، ثم يسمو بهما محلقاً في آفاق أرحب ناقلاً بهما خبراته، ومعارفه، وسلوكياته في كبسولات (جمل) قصيرة، دافئة تحمل عبق السنين إلى أجيال متعاقبة.