على الرغم من أن السيرة الذاتية قد عرفت بوصفها جنساً أدبياً في الأدب العربي القديم قبل أكثر من ألف عام؛ فقد كانت حتى وقت قريب جنساً أدبياً ذكورياً صرفاً، هذا إذا استثنينا بعض المرويات من السير ذاتية النسانية التي جاءت في معظمها عن طريق الرواية الشفوية. وقد عادت السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث ليس امتداداً للسيرة الذاتية العربية القديمة؛ بقدر ماهي تقليد للنماذج الغربية للسيرة الذاتية.
ووفقاً للدكتورة أمل التميمي؛ فإن نزعة السيرة الذاتية النسائية قد بدأت في بداية القرن العشرين على شكل مقالات ذات طابع شخصي في الأساس. ومع ذلك، لم تظهر السيرة الذاتية النسائية بوضوح إلا في الخمسينات من القرن الماضي، لتصل مرحلة النضج في الثمانينات منه (1).
ومع ذلك، فقد كان الحال في المملكة العربية السعودية مختلفاً إلى حد ما، فلم تظهر السيرة الذاتية النسائية الصريحة المقصودة إلا في عام 2010 على يد ليلى الجهني عندما كتبت سيرتها (أربعون: في معنى أن أكبر(2). أما المحاولة الأولى التي قامت بها سلطانة السديري عام 1989، فيبدو أنها لم تنجح، فقد أجبرت الكاتبة بضغط من أسرتها على التخلي عن مواصلة كتابة سيرتها التي كانت قد بدأتها على شكل حلقات نشرت في مجلة اليمامة تحت عنوان (مذكرات امرأة سعودية (3). وقد تلى ظهور سيرة الجهني الذاتية ظهور عدة سير ذاتية نسائية، مثل سيرة أميمة الخميس (ماضي مفرد مذكر (4)، وسيرة هدى الدغفق (أشق البرقع، أرى (5)، وغيرهما من السير الذاتية الأخرى، التي أخذت في الظهور بوتيرة سريعة نسبياً، نظراً لتحسن الظروف الاجتماعية التي كانت تقيد المرأة سابقاً، ونظراً لمساحة الحرية النسبية المتاحة للمرأة في كتابة الحياة والبوح بمكنوناتها، ونظراً أيضاً لإدراك المرأة لأهمية هذا الجنس الأدبي في التعبير عن الذات النسائية وطرح قضاياها المتعددة (6). وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن النساء السعوديات لم يكن يمتلكن الوسائل الأخرى التي تمكنهن من الكتابة عن حياتهن وسرد تجاربهن الذاتية الخاصة، فقد وظفن أجناساً أدبية وكتابية متعددة لتحقيق هذه الغاية مثل الرواية، والرسالة، والشذرات الشخصية، والشهادات الإبداعية، واللقاءات الصحفية، والمقالة، والسيرة، والقصة القصيرة.. إلخ؛ لتفادي التصادم أحياناً مع بعض القيود الدينية والاجتماعية. فلقد وظفت هذه الأجناس الأدبية في المملكة قناعاً لكتابة السيرة الذاتية ليس من قبل الأديبات فقط بل من الأدباء أيضاً. وهذه الممارسة قد شجعت القراء والنقاد أحياناً على المبالغة في (سيررة) الرواية التي تكتبها المرأة، الأمر الذي كان له تأثيرات سلبية كماً وكيفاً، كما أشرت إلى أهمها في مكان آخر (7).
وسأهتم في هذه الورقة بدراسة هذه السير الذاتية النسائية الثلاث التي أشرت إليها آنفاً، مركزاً على سيرة هدى الدغفق الذاتية نظراً لفرادتها.
وتشترك هذه الأعمال الثلاثة في عدة ملامح ربما تكون ممثلة للسير الذاتية النسائية في المملكة العربية السعودية بشكل عام، وهي: الحيرة والتردد، والتشظي، والعناوين الموحية الدالة، والناشطية أو الحرص على الدفاع عن حقوق المرأة. وسنناقش كل ملمح من هذه الملامح على حدة:
الحيرة والتردد
على الرغم من أن الكاتبات قد عبرن بطرق مختلفة عن رغبتهن في كتابة حياتهن وتجاربهن، وأن ثمة أدلة وافرة في أعمالهن لتأكيد العقد السيرذاتي مع قرائهن، إلا أنهن قد أبدين ضروباً من التردد فيما يتعلق بالطبيعة الأجناسية لأعمالهن، وبالدوافع التي دفعتهن إلى الكتابة، وكذلك بالأهداف التي يرغبن في تحقيقها في سيرهن.
فلم تستعمل العبارة التجنيسية (سيرة ذاتية) في أغلفة عناوين أعمالهن، بل استخدمن عناوين مجازية ليس لها أي قيمة أجناسية. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل إن بعضهن مثل أميمة الخميس تنكر أنها تكتب سيرة ذاتية بشكل عام: (ما أكتبه ليس بسيرة ذاتية، فالسيرة قد تغطي أوراقها مراحل العمر...) (8). ولكن هذا السبب، أعني انعدام الشمولية في العمل؛ ليس كافياً ولا مقنعاً، فالشمولية في أي سيرة ذاتية هي عموماً نسبية. أما ليلى الجهني فتقول في أحد المواطن واصفة عملها: (إنني أكبر، ومع ذلك فإن كتابتي هذه ليست عداً لأعوامي ولا إحصاء لها) (9). بينما نجد أن الدغفق تصف عملها في أحد المواطن بأنه (سيرتي الناقصة) (10). وربما يفسر هذا الموقف المتردد بخشيتهن من ظهور موقف اجتماعي سلبي تجاه كاتبات يبحن بأفكارهن ومشاعرهن الخاصة والحميمية أحياناً؛ (11) أو أنه تبرير استباقي لأي ضعف فني أو نقص قد يظهر في سيرهن الذاتية، وهذا ما أرجحه أنا.
التشظي
تجنبت كاتبات السير الذاتية الثلاث توظيف بنية سردية استعادية متماسكة ومتواصلة في كتابة تجاربهن الحياتية، واستعملن عوضاً عن ذلك أسلوباً سردياً مرناً ومتشظياً إلى حد كبير، حيث جاء كل عمل مجزأ في فصول كثيرة وقصيرة، وأعطي كل فصل منها عنواناً أو رقماً خاصاً، يكاد يكون مستقلاً بموضوعه أيضاً، دون كبير رابط مع ما قبله وما بعده.
وعلى الرغم من أن هذا الأسلوب المتشظي قد حدد من قبل بعض النقاد بوصفه سمة أسلوبية مميزة للسيرة الذاتية النسائية بشكل عام، أو بوصفه سمة من سمات ضعف المهارات السردية الفنية لديهن -كما أشرنا قبل قليل؛ يمكن فهم هذه الظاهرة وتفسيرها أيضاً في سياق تخوف هؤلاء الكاتبات من ظهور ربما فراغات وثغرات في سيرهن الذاتية لا يستطعن أو لا يردن -لأسباب عديدة- ملأها أو سدها، لو أنهن تبنين حبكة سردية متواصلة في كتابة سيرهن. فقد ساعد هذا الأسلوب المتشظي الكاتبات على انتقاء وانتخاب بعض التجارب والأحداث التي رأينها مهمة وملحة، وتفادين التجارب الأخرى التي قد يكون من شأن سردها إدانتهن دينياً أو اجتماعياً. وربما كان سبب هذا التشظي -أو على الأقل جزء منه- عائداً إلى أن فصول هذه السير الذاتية ربما قد كتبت في أوقات مختلفة، ثم جمعت بعد ذلك في كتاب واحد، وقد يبدو هذا سبباً منطقياً إذا أدركنا أن بعض هؤلاء الكاتبات قد كن يكتبن مذكراتهن ويحتفظن بها منذ سن مبكرة (12). كما أن جزءاً من هذا التشظي ربما كان عائداً إلى طبيعة بعض التجارب المتشظية التي عاشتها الكاتبة نفسها، تقول الدغفق على سبيل المثال: (لكن دمّلة من الصراخ المتراكم في حنجرتي أرغمتني على أن ألملم شظايا تجربتي) (13).
العناوين الدالة
لقد اختارت الكاتبات الثلاث عناوين سيرهن الذاتية لتكون دالة على الموضوعات والقضايا والاهتمامات التي تشغل كل واحدة منهن عند كتابة سيرتها الذاتية. فالجهني عنونت سيرتها بـ(40.. في معنى أن أكبر)، وهو عنوان مناسب فيما أعتقد للمقاربة المنكفئة على الذات التي تبنتها في كتابة سيرتها الذاتية، ولذلك ركزت الكاتبة على قضايا من مثل: الألم، والوحدة، والخوف، والموت، والصمت، والعقم، والغيرة، والخصوصية.. إلخ. والكاتبة تكرر عبارة (إنني أكبر) في بداية كل فصل من فصول الكتاب، تمهيداً لطرح قضية من القضايا المشار إليها آنفاً، تقول مثلاً: (إنني أكبر، وأبلغ أربعيني دون طفل، ومع ذلك فإن اسمي لن يمحى كما تظن نسوة كثر حولي...)(14). وتقول أيضاً: (إنني أكبر، وتكبر معي أشياء كثيرة أولها: الألم. كلما كبرت صار الألم أكبر، وأبطأ رحيلاً!) (15).
أما عنوان أميمة الخميس (ماضي.. مفرد.. مذكر) فهو استعارة مجازية لغوية تشير إلى تهميش مكانة المرأة في المجتمع من وجهة نظر الكاتبة. فجذر الفعل في العربية هو الماضي المفرد المذكر، ولذلك فالمجتمع والثقافة تشكلهما وتتحكم فيهما التقاليد الموروثة القديمة والرأي الفردي الواحد والسيطرة الذكورية. تقول الكاتبة: (إنها الفلسفة التي تغزل خيوط نسيج ثقافتنا... فالجذر هنا لا بد أن يكون ذكراً واحداً مفرداً يستمد مصداقيته وشرعيته من ماضيه) (16)، (وما عدا ذلك فهو مزيد هامشي وفرعي) (17).
ويأتي عنوان سيرة الدغفق (أشق البرقع..أرى) أكثر حدة وتمرداً. فعلى الرغم من أن الكاتبة لا ترتدي البرقع في حياتها الفعلية، فإن البرقع يأتي ليكون رمزاً للقيم التقليدية القاسية التي تحرم المرأة من نيل حقوقها في المجتمع التي تعيش فيه الكاتبة. تقول: (انظروا إلى سنام المحرمات فوق ظهري، أكاد أترنح تحت ثقلها. أسلافي من النساء في الجاهلية كن يوأدن لحظة ولادتهن، لكني أوأد كل يوم، في مجتمع ذكوري صارم ومتجهم وعنيف..) (18).
الدفاع عن حقوق المرأة (الناشطية)
تكتب السيرة الذاتية عادة استجابة لمجموعة من الدوافع المتنوعة المتعددة، التي قد يعيها الكتاب أو لا يعونها مجتمعة، ولكن بعضها يكون واضحاً ومسيطراً. وفي نماذجنا السيرية هذه، نجد أن الحاجة أو الرغبة في الدفاع عن حقوق المرأة في المجتمع، وذلك من خلال كشف أو فضح ما تراه هؤلاء الكاتبات تهميشاً ومظلوميات وتحيزات تمارس ضد المرأة؛ يأتي من أبرز هذه الدوافع. وعلى الرغم من أن سرد الحياة الشخصية لهؤلاء الكاتبات هو الموضوع الرئيس لهذه السير؛ إلا أنهن كثيراً ما يعبرن عن آرائهن حول كثير من القضايا الاجتماعية والدينية والثقافية والأدبية، ولكن كل ذلك في الغالب الأعم من منظور نسوي واضح. وفي بعض الأحيان، لا يستطيع القارئ أن يميز بين ما تكتبه هؤلاء الكاتبات، وبخاصة الخميس والدغفق، في سيريهن الذاتية؛ وما يكتبنه في مقالاتهن في الصحف والمجلات. فالخميس تركز في سيرتها على القضايا التعليمية المتصلة بالمرأة، لأن أغلب النساء السعوديات يعملن في قطاع التعليم بما فيهن الكاتبة، تقول الكاتبة: (ليس هناك أنثى في السعودية لم تترك عليها الرئاسة (العامة لتعليم البنات) ختمها، حتى أولئك اللواتي عملن أو تعلمن في المدارس الخاصة، فإن أنفها الطويل كان يندس عبر مديرة لا بد أن تعين من قبل الرئاسة ومفتشاتها ومندوباتها) (19). أما الدغفق، فتركز كثيراً على القضايا الأدبية والإبداعية، وعلى العقبات والإكراهات التي تواجهها الكاتبة في مجتمعها، وإن كانت بالطبع لا تهمل القضايا الأخرى. أما الجهني فتركز على القضايا الشخصية الداخلية في حياتها التي عادة ما تقلق المرأة، وربما تبرر عزلتها الذاتية.
ومع ذلك، فالكاتبات يتبنين في مناقشة هذه القضايا المتنوعة أساليب مختلفة، فليلى الجنهي تبدو متقوقعة على ذاتها ومتأملة، وأميمة الخميس ناقدة وناقمة، أما هدى الدغفق فتبدو انفعالية ومتمردة.
(أشق البرقع.. أرى) لهدى الدغفق
تتكون هذه السيرة من ثلاثة أجزاء رئيسة، بالإضافة إلى ما يمكن عده مقدمة (تفاحة رغبتي المؤجلة)، وخاتمة (موقف أخير).
الجزء الأول جاء بعنوان (الخروج من الخيمة)، وتضمن تسعة فصول قصيرة، تتفاوت في طولها، من صفحة ونصف إلى أربع صفحات تقريباً. وتركز هذه الفصول في الغالب الأعم على مناقشة موقف المجتمع من المرأة وقضاياها، كما تصوره التقاليد الدينية والعادات الاجتماعية، بحسب ما تراه الكاتبة بطبيعة الحال. ولعل من المهم ملاحظة أن بعض فصول هذا الجزء من السيرة يبدو وكأنه نوع من الدراسة أو البحث الذي يجرى حول القضايا الاجتماعية والسلوكية في المجتمع السعودي، فالراوية في هذه الفصول تتحدث باسم جميع النساء السعوديات، وتبدو وكأنها باحثة اجتماعية أو منظرة تشعر بأنها مسؤولة عن تقديم اقتراحات وتوصيات حول الطريقة التي ينبغي أن تعيش بها المرأة في المجتمع.
الجزء الثاني: جاء بعنوان (سوادي وبياضه)، وتكوّن من خمسة فصول تعالج في الغالب الأعم العلاقة بين الرجل والمرأة، وجاء هذا الفصل مسروداً بضمير الغائب. وفي هذا الفصل يتم فضح الرجل ونقده، وخصوصاً المتعلم والمثقف الذي يظهر متناقضاً بين ما يقوله وبين ما يفعله.
أما الجزء الثالث، فجاء في ثلاثة وثلاثين فصلاً، تسرد فيها الكاتبة جانباً كبيراً من حياتها وتجاربها الشخصية. ولا يبدأ هذا الجزء إلا في الصفحة السابعة والسبعين من الكتاب، وربما كان هذا التأخر في سرد حياة الكاتبة مظهراً من مظاهر الحيرة والتردد في كتابة سيرتها الذاتية ونشرها. تقول الكاتبة في بداية هذا الجزء: (لا أستطيع أن أحصي محاولاتي في الكتابة عن تجرتي، هل كنت مترددة في إزاحة اللثام عن أسراري؟ ربما) (20). أعتقد أن الكاتبة قد شعرت بأن عليها أن تكتب الفصول التقديمية التي وردت في الجزءين الأولين لتهيئة القارئ لقراءة سيرتها الذاتية بشيء من التعاطف، أو على الأقل بشيء من الموضوعية. وأعتقد أن هذه الفصول التي وردت في الجزءين الأول والثاني تشكل (برقعاً مجازياً) لحياتها، فكان على الكاتبة شقه لتتمكن من الوصول إلى حياتها، أعني أن تكون قادرة عل كتابتها.
وفي هذا الجزء من السيرة تبدأ الكاتبة بسرد حياتها بأسلوب بسيط وشذري، متبعة في ذلك الأسلوب المضموني، وليس أسلوب التدرج التاريخي (الكرونولوجي). فتجاربها الحياتية تسرد وفقاً لمجموعة مختلفة من الموضوعات التي تشكلها، وتشكل ردود أفعال الكاتبة تجاهها. وهذه الموضوعات تشمل موضوعات من مثل: عائلتها، ووالدتها، ورسائلها، ودراستها الجامعية، وشعرها، وعملها، وطالباتها، وأصدقائها.. إلخ
وانتهاج هذا الأسلوب المضموني ربما يفسر إلى حد ما؛ بكون الكاتبة شاعرة وليست كاتبة رواية، تمتلك المهارات السردية التي تمكنها من خلق نص سردي متواصل ومتماسك، وهذا هو ما أدركته الكاتبة نفسها في وقت مبكر من حياتها الإبداعية، تقول: (بدايتي كتبتها قصة في العام 1983 نشرت عبر صحيفتي (الجزيرة) و(الرياض)؛ إلا أن كرهي سرد التفاصيل وقناعتي بنقص قدرتي على القص هداني إلى صراط الشعر في سن مبكرة) (21). ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن هذا الأسلوب ربما بدا أكثر مناسبة وملاءمة لروح الكاتبة الثائرة، لأن المنهج المضموني المتبع في السرد مكنها من التعبير عن فورات احتجاجها، وثورتها، وبوحها، أو ما تسميه الكاتبة: (شظايا تجربتي) (22).
الشعر مقابل النثر
هدى الدغفق هي شاعرة في المقام الأول وكاتبة نثرية في المقام الثاني، على الأقل إلى وقت كتابة هذه الورقة، ومع ذلك، فقد رأت أنه يتحتم عليها التعبير عن ذاتها وتجاربها بطريقة نثرية، وأن الشعر رغم ذاتيته لم يعد كافياً للقيام بذلك، وربما كان السبب في هذا التحول هو ما ذكرته كلير ولزمن أن (الذات الشاعرة ليست ببساطة سيرذاتية)، ولكنها (ذات محطمة ومعتمة، مثقلة بكل أنواع القوى اللاواعية، ومرددة لأصداء وذكريات ثقافية وتاريخية لا تستطيع التحكم فيها) (23).
وفي الحقيقة، نجد أن الدغفق تقوم في سيرتها بالمزج بين الشعري والنثري، كونها متميزة في كتابة قصيدة النثر، وفي كثير من الحالات نجد أن البوح الشعري يمتد لأقصى حدوده الممكنة، وبخاصة في عناوين الفصول الكثيرة التي كثيراً ما توظف فيها عبارات وجملاً شعرية ذات دلالات مجازية معبرة.
الهوية والغموض
تشير الهوية عموماً إلى الطريقة التي يفكر بها المرء في نفسه وعنها وحولها، إنها هوية معقدة ومتعددة الأوجه، ولكننا نختار أن نركز على بعض جوانبها عندما نقرر الكتابة عن ذواتنا. ولذلك، فكل كاتب سيرة لديه بالضرورة عدة هويات أو عدة صيغ للهوية.
وفي (أشق البرقع … أرى) نجد أن هناك على الأقل أربع هويات متجاورة ومتقاطعة، تعمل بفاعلية فائقة في هذا العمل السيري، وهي على النحو الآتي:
1 - هدى (المؤلفة)، وهي شخصية حقيقية تعيش بيننا. ولهدى الحقيقية في هذه السيرة الذاتية صورتان أو مظهران: هدى القديمة التوفيقية إلى حد ما وهدى الجديدة الجريئة، ولعل هذا يتضح فيما قالته حول مشاركتها المثيرة في أمسية شعرية في مهرجان الجنادرية عام 2011، أقيمت في نادي جدة الأدبي، تقول: (..لكن هدى أخرى كانت تحرضني على إقصاء صورتي القديمة. صورتي الممحوة في الأصل، وتظهير صورة أخرى لا تجللها عباءة الخوف...) (24).
2 - هدى (الساردة)، وهي الشخصية الرئيسة التي اختلقتها الكاتبة، وأعطتها اسم (شهرزاد)، وأوكلت إليها مهمة سرد قصة حياتها، أو على الأقل سرد الجزء الخاص بسيرتها الذاتية. تقول الكاتبة: (...فآثرت ألا أبوح وألا أكتب شجوني! إلا أنني أقنعت راويتي (شهرزادي الخائفة؟) بالكلام للخلاص من هيمنة بعض أشكال الرقابة على تفكيري وتحرير حبري المرتجف من أسرها) (25).
3 - هدى (الممثلة للمرأة السعودية) التي تعبر عن معاناة النساء السعوديات ومظلومياتهن، وتدافع عن حقوقهن نيابة عنهن، تقول: (لست من كوكب آخر، أو جغرافيا متوهمة، لكني امرأة من المملكة العربية السعودية. امرأة، مثل آلاف النساء في هذه الأرض المقدسة) (26). فهنا تمتزج هوية هدى بهوية النساء السعوديات بشكل عام، وتبرز أحياناً في صورة باحثة وناشطة تسعى كما تقول: (إلى الدفاع عن حقوق المرأة السعودية من خلال ما كتبت وشاركت في كثير من الدراسات) (27).
4 - هدى، الهوية الذكورية الثقافية الاجتماعية اللاواعية، التي تفرضها اللغة على كل النساء، تقول الدغفق معلقة على هذه الهوية المفروضة، وكيف أنها تفرض سيطرتها عليها، من حيث لا تدري: (أنتبه الآن فقط، إلى أنني أكتب بصيغة المذكر، أليست هذه محنة إضافية للكاتبة، وهي تتخلى طوعاً، عن ضمير المؤنث) (28).
لقد كانت الكاتبة على إدراك تام بتعدد الهويات التي كان عليها أن تلبسها أو تتقنع بها: (حتم علي عيشي في مجتمع محافظ مزاوجتي بين شخصيتين لذاتي، إحداهما تناسب عائلتي وأخرى تناسب وعيي يتحقق بها توازني وتأثيري) (29). لذلك ظهرت هوية البطلة في هذه السيرة الذاتية منشطرة ومتعددة ومتنوعة وثرية، بل حتى متناقضة أحياناً.
*هذه ترجمة تقريبية لورقة كنت قد ألقيتها بالإنجليزية في المؤتمر الدولي للسيرة الذاتية بالسويد، المنعقد في 2-4/ 10/ 2014م
1. أمل التميمي. السيرة الذاتية النسائية في الأدب العربي المعاصر، (الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2005)، ص ص 32-37.
2 . ليلى الجهني. أربعون: في معنى أن أكبر، (بيروت: دار الآداب، 2010).
3 . عبد الله الحيدري. السيرة الذاتية في الأدب السعودي. (الرياض: دار طويق، 2003) ص ص 156-157.
4. أميمة الخميس. ماضي، مفرد، مذكر، (بيروت: الانتشار العربي 2011).
5. هدى الدغفق. أشق البرقع..أرى، (بيروت: جداول، 2011).
6. صالح معيض الغامدي. كتابة الذات: دراسات في السيرة الذاتية. (الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي 2013). ص ص 128-129.
7. الخميس، ماضي، مفرد، مذكر، ص 11.
8. الجهني، 40.. في معنى أن أكبر. ص7.
9. الدغفق، أشق البرقع..أرى، ص 77.
10. أشار إلى هذ التردد الدكتور بدر المقبل في مناقشته لإشكالية التجنيس في بعض السير الذاتية النسائية السعودية. ينظر: بدر المقبل «السيرة الذاتية النسائية في المملكة العربية السعودية (إرادة البوح وإشكالية التجنيس)»، مجلة العلوم العربيةالإنسانية، جامعة القصيم، مجلد 7، عدد 4، (شوال 1435هـ/يوليو 2014)، ص ص: 22-25.
11. الدغفق، أشق البرقع.. أرى، ص ص 104-108، الجهني، 40.. في معنى أن أكبر. ص37.
12. الدغفق، أشق البرقع.. أرى، ص 82.
13. الجهني، 40.. في معنى أن أكبر، ص 11.
14. نفسه، ص 13.
15. الخميس، ماضي، مفرد، مذكر، ص ص 19-20.
16. نفسه، ص 19.
17. الدغفق، أشق البرقع..أرى، ص 13.
18. الخميس، ماضي، مفرد، مذكر، ص 13.
19. الدغفق، أشق البرقع، ص 80.
20. نفسه، ص 99.
21. نفسه، 82.
22. ينظر: Laura King “ Autobiography As Activism: Linking Opression، Identity and Feminism” p. 76،
http://dialogues.rutgers.edu/journals/69-autobiography-as-activism- linking-oppression-identity-and-feminism/file 20/7/2017
23. الدغفق، أشق البرقع...أرى. ص189.
24. نفسه، 83.
25. نفسه، ص 13.
26. نفسه، ص 129.
27. نفسه، ص 108.
28. نفسه، 98.