مجلة شهرية - العدد (582)  | مارس 2025 م- رمضان 1446 هـ

القضية

قبيل الفجر كان صلاح يغط في نوم عميق بعد ليلة مؤرقة، ساعة المنبه تمزق صمت الليل بدوي متخاذل، كأن النعاس امتد إليها.
كثر تفكير صلاح في هذه الأيام وتغير حاله، تضاعفت آماله، زوجته انكمشت مبتعدة عنه، فلزمه أن يمد يده ليسكت هذا المزعج، وما إن سحبها إليه، وعاد الصمت من جديد إلا وشعر أن نومه قد تبدد، وأخذت طلائع من سحب التفكير تغزو رأسه، ترك فراشه بتكاسل، وجر قدميه جراً إلى دورة المياه.. توضأ لصلاة الفجر.. تمنى غياب إمامهم، فهو يطيل القراءة، وكما ذهب عاد، لم ينشط فيه شيء.
اعتاد صلاح قبل ذهابه إلى عمله أن يسمع أخبار العالم من المذياع، حرك مؤشره إلى محطة يفضل سماعها، ومن أول كلمة تلقاها من المذياع جعلته يتحفز لسماع المزيد، طرح النعاس عنه جانباً، وأقبل بكل حواسه على المذياع، الأخبار تتوالى تباعاً مفعمة بالإثارة: (الفلسطينيون يعودون إلى بلادهم بعد طرد آخر صهيوني عنها.. إسرائيل تحتج لدى الأمم المتحدة على تصرف الفلسطينيين معهم.. الدول العربية تجمع على تحكيم الكتاب والسنة، وإلغاء جميع الأحكام الوضعية، ثم ينقطع البث ويتحدث مذيع آخر مستميحاً المستمعين العذر إرجاء الأخبار، لرفع آذان الفجر من القدس الشريف).
لا لا.. لابد أنه يحلم، ضرب رأسه بيده، وتوجه إلى غرفة نومه، وجد السكون شاهداً على أنه الوحيد اليقظ في المنزل، إنه ولا شك لا يحلم، لا في النوم ولا في اليقظة، وعاد مع انتهاء الآذان، وبدأت الأخبار تتواصل: البنوك العالمية تمنى بهزيمة ساحقة أمام المصارف الإسلامية، سقوط السلطة الأوروبية في جنوب أفريقيا، إشهار آلاف من سكان أمريكا إسلامهم، والحكومة تعدهم بمقاعد في الكونجرس، بدء الزيارة إلى القدس الشريف من الدول العربية بعد التحرير، وأخذت الأخبار تتدفق نحوه، من الدولة إلى المدينة إلى الحارة، وها هي تتركز على منزله، اسمه يعلن في المذياع لأول مرة، حيث كان على رأس المسافرين إلى فلسطين، فرك عينيه بيديه، ثم فتحهما جيداً، فوجد أمامه رجالاً غرباء أحاطوا به، وبمعاملة تفيض رقة أدخلوه مكاناً فسيحاً فيه خلق كثير، لابد أنها إجراءات السفر، وهؤلاء هم المسافرون بصحبته، نظراتهم إليه جعلته يسرد قصته عليهم دون أن يطلبوا منه ذلك، سألوه عن اسمه، فأجاب بتلعثم:
- صلاح.
اندفعوا إليه بهياج صاخب قائلين:
- أنت إذن قائدنا المظفر.
حملوه على الأعناق، تعالى الهتاف، استبد به الحماس، نظر حوله، تحركت يده إلى جيبه، امتشق قلمه ملوحاً به في الهواء، وهو يصيح بأعلى صوته:
- إلى بيت المقدس يا جند الله.

ذو صلة