مجلة شهرية - العدد (582)  | مارس 2025 م- رمضان 1446 هـ

المعروف

ضاقت نفسه من نفسه، بعدما أوصدت الدنيا أبوابها في وجهه، وطاف يميناً وشمالاً عساه أن يجد عملاً.. ولم يجد!!
 ذهب إلى أحد زملائه، ليقترض منه بعض النقود... فاعتذر له!
 توجّه إلى آخر، فشكا له مما يشكو منه.. فبلغ به اليأس مبلغه!
 تحامل على نفسه، وقام بمحاولة أخيرة يائسة، فتوجّه إلى صديق قديم له في قرية نائية... فعلم أنه غادر البلاد مع أسرته!
فاستبدّ به الضّيق، وأصابه من الهمّ والحزن ما أصابه، لسطوة الدّين، وشبح الضّياع الذي نسج خيوطه في طريقه... فتمتم يائساً: ليس هناك من خير يرتجى في هذا الزمان!
ظلّ سائراً بين الحقول الشاسعة... يجوب الآفاق بنظراته القلقة، فاقداً الأمل في إكمال دراسته، بل كارهاً البقاء في الدنيا... فإذا به يبصر من بين البساتين الكثيفة رجلاً نحيلاً، تكاد قربة الماء التي على كتفه ترديه على الأرض!
فانطلق نحوه ليحملها عنه.. وما إن وصل إليه، تهلّل الرجل بالسرور، ورحّب به، وقدّم له طبقاً مملوءاً رطباً جنياً.. فأكل بنهم حتى شبع.
ثمّ ما لبث أن قصّ عليه مأساته... فمسح على كتفه، وقال: اعلم أنّ دوام الحال من المحال، ومادام رزقك على الله فلا تحزن.. والأجر على قدر المشقة!
ثم استدار قليلاً، وتناول جرعة ماء، وأردف قائلاً: تفاءل يا ولدي ولا تقنط، فإنّه عندما يجيء أوان الفرج، فلا قيمة للأسباب.. فقد خرج (يهوذا) بالقميص، فسبقته الرياح بالبشرى (إنّي لأجد ريح يوسف)! و(مريم) التي (كفّلها زكريّا) كان (كلّما دخل عليها زكريّا المحراب وجد عندها رزقاً)!
تسلّلت هذه الكلمات إلى أذنه كاللّحن الجميل، وظلّ يستمتع بالوصايا الغالية، حتى سجى اللّيل، وتلألأت السماء، وغطّت الحقول قطرات النّدى.. فتمنى ألاّ يغادر المكان، بعدما استهوت مسامعه الحكم الرفيعة، وهزّت فؤاده المواعظ البليغة!  قبل أن يقوم من مقامه، سأل: هل تمتلك كل هذه الزروع والمحاصيل والفواكه، والنخل ذات الأكمام؟!
 فابتسم الرجل، وقال: لا أخفي عليك سراً، لم يكن عندي سوى نخلة واحدة، فكنت أتصدّق بنصف طلعها، وكما قيل في الأمثال: المطر لا يهدي الأرض ثوباً زاهياً، بل سرير أحلام! وفي النّاموس الإلهي (من جاء بالحسنة فله خير مّنها)!
 اندهش الشاب من يقين ذاك الرجل، الذي إذا نطق بان نطقه عن الحقائق، وإذا سكت نطقت عنه الجوارح.. وتعجّب منه كتعجّب موسى من الخضر!
فزال عنه القنوط الذي كان يتغشّاه، وتبخّر اليأس الذي كاد يقتله.
 قال -وهو يهمّ بالرحيل-: لو ضاقت بي السبل، هل تأذن لي أن أقيم في خيمتك؟
لا مانع، مادمت تؤمن بأنه (من جاء بالحسنة فله خير مّنها)!
 ازداد تعجّبه من إيمان الرجل ويقينه، فتنزّلت عليه السكينة، وغشيته الرحمة، ثمّ ودّعه قائلاً: أشكرك يا سيّدي على كرمك... وعسى أن نلتقي.
أنا خادمك (رشاد فؤاد) طالب بكلية الطب.
 فقال: لا شكر على واجب يا بنيّ.. جعلك الله عوناً لعباده، وسلماً لأوليائه.
* * *
مرّت الأعوام سراعاً... وأصبح طالب الطب، أحد الجرّاحين الذين يشار إليهم بالبنان!
في إحدى الليالي، تمّ استدعاؤه إلى (المستشفى الجامعي) لوصول حالة حرجة للغاية.. سبق أن اعتذر عنها (المستشفى الدولي) لأنّها ميئوس منها. كما رفض استقبالها (المستشفى الاستثماري) بحجّة أنها حالة شبه ميتة!
 بمجرد أن اطّلع (الدكتور) على اسم المريض، واسم القرية التي ينتمي إليها.. تذكّره على الفور! فقرّر أن يفعل ما في وسعه لعلاجه.
 بالفعل، فلم تمض ساعات قلائل حتى نجح في علاجه بمهارة فائقة، وأعاده للحياة، مخيّباً ظن الآخرين الذين توقعوا خلاف ذلك.. ثمّ ما لبث أن اشترى له الدواء اللازم، وكتب عليه:
هذه هديتي إليك، لأنه (من جاء بالحسنة فله خير منها)!
توقيع: خادمك القديم (رشاد فؤاد) طالب كلية الطب.
* * *
في تلك الأثناء، كانت الظنون تحيط بالرجل من كل جانب... إذ توقّع أنه سيبيع أرضه، وبيته، بل سيقضي حياته كلها ليسدّد أجر العملية الجراحية!
فلمّا قرأ الورقة المرفقة بالدواء.. غمرته البهجة، وراح يضمّها بشوق ويقبّلها، كأنّها قميص يوسف في أجفان يعقوب!
 ثمّ ذرفت منه دموع الفرح، ورفع يديه نحو السماء، قائلاً بصوت خاشع:
 سبحانك.. سبحانك! إذا كان المعروف لا يضيع في الدنيا، فكيف يضيع في الآخرة؟!
آمنت.. آمنت أنّه (من جاء بالحسنة فله خير مّنها)!

ذو صلة