مجلة شهرية - العدد (582)  | مارس 2025 م- رمضان 1446 هـ

بعث

تعالت الأصوات وتدفق من الحناجر لون أحمر، تناهى إلى سمعه صوتها مبللاً رطباً على قلبه، تطبق عليه فتنز من بين أصابعها كل ما هو أسود، تطهر قلبه، وتزداد نبضاته شوقاً لتواصل الإطباق عليه ولا تتركه، يرتعش نشوة بهذا الصوت يرتفع النشيج في صدره، ويهمس زينب... زينب... زيييينب.
يغمض عينيه هنيهة، ويزفر بقوة.. يكاد يُقسم تلك الشجرة البعيدة طولياً إلى نصفين.
تفرَّس الوجوه كاد يلمسهم، يمد يديه أكثر فأكثر ولا يستطيع، أصابعه تستطيل بلا جدوى، ويعلو الصوت.
تجحظ عيناه، لتلتقط صورتها من بينهم كي يحظى بها، فيفر الدمع ولا يراها بينهم.
ترتفع الأصوات متزاحمة، ينتقي صوتها ويستند عليه، يتأوه..
تسقط أوراقه واحدة تلو الأخرى..
رياح تعصف بذاكرته.. ورقة ميلاد يتقدمها اسمه وتتبعه بعد ذلك أسماء مجهولة لم يشاهدهم، لا يربطهما سوى حبر!
أبوه الذي لم يره طوال الأربعين عاماً المنصرمة، جاء إلى الدنيا من احتمال ضعيف، توقعوا وفاته فور ولادته ولم يحدث، أصدر صوتاً عالياً أخبروه فيما بعد أنه لم يتوقف عن البكاء وصوته كان مزعجاً وغريباً.
كان يحاول أن يلفت نظرهم له ولكن مع مرور الوقت خفت صوته، تضاءل حجمه بينهم وهو ينمو ويحبو على أربع ويتحرك دون مساعدة، ها هو يحاول إخراج صوت من بين الأصوات، فلا أحد يسمعه!
تعلو الأصوات لإسقاط ورقة وفاة والدته التي لم يشم رائحتها، فقط كفنها الذي لم تكن فيه سوى رائحة الموتى الذين اعتاد أن يجري لهم إجراءات الدفن وتزكم أنفه بها.
لم يبكِ عليها مثلما فعل على زوجها عم محمود.. قالوا إنه يشبهه كثيراً، لم يشاهده إلا وهو يحتضر، ضمه بقوة آنذاك.. وحاول العم محمود أن يضمد جرحه، يلقي عليه بعض الرسائل التي كتبتها أمه له ولا تود إرسالها، أخبره أنها ستفسر كل شيء له.
أوصت بأن يقرأها بعد وفاتها، زادت الرسائل من عمق جرحه.
 كانت كلماتها منتهية الصلاحية ورائحتها قديمة أصابته بتحسس مزمن من كلمة الرسائل، لم يعد يستقبل أي رسالة، غيّر عنوانه مرات ومرات، وبقي في قيد اسمه.
جاءت ورقة زينب التي ارتطمت بقلبه ومازال يسمع دويها، أخذته من كل ما حوله، فبمجرد أن اقترنت به سحبت من دمه كل الذكريات المؤلمة لم يجرِ تحاليل على ما مضى.
زينب مثل الموج الذي يضرب الصخر بقوة ولا يؤذيه، تعلن عن وجودها، تفجر أحاسيسه، تشعره بأن الحياة بها أجمل، وبدونها أعقد.
من أين جاءت؟ وكيف رحلت؟ ظلت أدوات الاستفهام تلاحقه، وهو يدور في فلك الأسئلة بلا جدوى.
صار الصوت قريباً أكثر، ظل يردد اسمها زينب زينب.. يرد عليه نبضه هنا.. هنا، تتدفق في شرايينه، يشعر بحرارة وسخونة، يخرج منديله، يمسح ما يسيل من أذنيه، فيتخضب المنديل بالأحمر.
يزيح الأصوات بيديه، فتظل الوجوه جامدة مستغربة حالته، تخفت الأصوات وتتعالى أبواق السيارات والباصات، تصعد الأرواح، يقترب من الباص يحاول أن يمسك بالباب وسط الحشود، ما أن يقترب حتى يغلق الباب في وجهه.. يتحسس حنجرته، يشير للباص بيديه، فيبتعد عنه..
تدهس عجلاته الأوراق.. ويبقى وحيداً.

ذو صلة