مجلة شهرية - العدد (582)  | مارس 2025 م- رمضان 1446 هـ

الفيلم التسجيلي.. هل يمكن اعتماده تاريخياً؟

 

لقد أصبح من الضروري على المؤرخين التفاعل مع منجزات العصر، والإفادة من التطور الذي يمضي بخطوات متسارعة في العالم الحديث والمعاصر، تبعاً لتطور المعطيات الحضارية، وبخاصة في الجوانب التكنولوجية والمعلوماتية والمعرفية المتلاحقة.
وقد جرى العرف في النُظم المنهجية المُتبعة في الكتابة التاريخية على الاعتماد على ما هو مدون ومكتوب، فيما يُطلق عليه الرصد الكتابي، سواء أكان ذلك من خلال الوثائق غير المنشورة أم المنشورة، والبرديات والنقوش الأثرية والمخطوطات والبحوث غير المنشورة والمذكرات والصحف والمجلات والمراجع.. وغيرها، وغالبيتها، إن لم تكن جميعها؛ كانت في الإطار المكتوب، ويصبح ناتجه المقروء مكتوباً أيضاً، ومن ثم لا يُمكن أن ينتهي هذا الرصد الكتابي للتاريخ، خصوصاً مع تنوع وتباين المستويات الثقافية بين فئات المجتمع، سواء في تدوين أو استقاء المعلومة التاريخية.
وأما التساؤل الذي يثيره البعض عما إذا كانت الأفلام الوثائقية والتسجيلية الآن أكثر صدقاً من التدوين الكتابي؛ فإن هذا القول بحاجة إلى روّية في الإجابة، لأنه في ضوء الأدوات التكنولوجية الجديدة، فإن أول ما نلتقيه هو اتساع قاعدة المصادر التوثيقية والمعرفية التي يمكن الاستعانة بها في الكتابة التاريخية باعتبارها أدوات أو آليات جديدة.
وبعدما تم اختراع الأجهزة المسموعة والأجهزة المرئية ومشتقاتها، وناتج كل ذلك في أفلام متعددة الأشكال الفنية والأنواع والأغراض.. وما إلى ذلك، فضلاً عن المستنسخات أو المستندات التصويرية أو الطباعية في الأفلام الميكروفيلمية والميكروفيشية.. وغيرها، بالإضافة إلى ناتج الوسائل الإلكترونية الأحدث والكاميرات والأجهزة اللوحية والإنترنت؛ فقد أصبحت كل هذه المجالات أدوات أو آليات مساعدة في الرصد والتوثيق للحدث التاريخي، وأضافت أبعاداً جديدة تضاف إلى مصادرنا التقليدية التي كنا نعتمد عليها في الكتابة التاريخية.
وبطبيعة الحال فليست كل المحتويات المسموعة والمرئية بنفس القدر من الأهمية في موادها التاريخية، وعلى سبيل المثال: تتجلى قيمة الأعمال الفنية بأجوائها الدرامية، ورؤاها الفنية متعددة الجوانب، وهذه لا يمكن اعتبارها وثائقية، ولكن يُمكن للمؤرخ من خلالها معايشة خلفية الأجواء ثقافياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً أو سياسياً.. وغير ذلك، وهو بذلك يفيد منها في محاولة فهم العلاقات الدرامية بين سائر مكونات الحدث، في الأمكنة والأزمنة والشخوص، وهي مجالات قد لا تسعفنا بها الوثائق التقليدية.
وإذا كانت هذه المكونات الفنية تمثل أجواءً خلفية للحدث التاريخي؛ فإن الوضع يختلف إزاء الأعمال الفنية التسجيلية أو الوثائقية، فهذه تمثل قدراً كبيراً من الأهمية في الاعتماد عليها كمواد تاريخية، سواء أكانت هذه الأعمال أفلاماً مسموعة أم مرئية، وهذه تختلف تصنيفاتها حسب المضمون أو المعالجة أو البنائية.
ويتضح هذا من كون الفيلم التسجيلي يُعتبر في نظر البعض: (سلسلة من الإمكانيات المقبولة عندما نكون في عالم الحقيقة، وليس في عالم الخيال، فالبحث عن الحقيقة يمكن أن يتخذ أشكالاً شتى)، وهذه الأشكال أو الأنواع قد تكون (تحقيقية أو روائية أو إخبارية أو شخصية)، وقد يستخدم الفيلم أحد هذه الأشكال أو هي معاً.
وبذلك فإن الفيلم الوثائقي بدوره يمكن أن يكون إطاراً تسجيلياً في جوانب اجتماعية أو ثقافية أو رسمية أو.. إلخ، وبالتالي يمكن اعتباره مصدراً source أي يرتقي إلى مرتبة الوثائق Documentary أي أقوى من الكتاب التقليدي المعروف، شريطة اعتماد محتويات هذه الأفلام التسجيلية Documentaries على أدلة أو حقائق.
وهذا يتسق مع تعريف الوثيقة بمفهومها التقليدي بأنها: (كل أصل أصيل يُعتمد عليه، ويرجع إليه لإحكام أمر ما وتثبيته وإعطائه صفة التحقق والتأكد من جهة، أو تكشف عن جوهر واقع ما، في جانب من الجوانب السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية.. وغيرها، أو في المجالات المحلية أو الإقليمية أو الدولية). ومصادرها هي السجلات والدفاتر والمحفوظات والأضابير في المظان الأصلية، وهذا التعريف التسجيلي مستوحى أو مقتبس من مفهوم السجل، ويشتمل على كل الأدوات السابقة.
ومن محددات الوثيقة أو مقوماتها، أن تكون مصدراً للمعرفة، بما تشتمل عليه من معلومات يُمكن الاعتماد عليها في إثبات حجة أو دفع شبهة أو رد على رأي، أو الحصول على معلومة جديدة تفيد في البحث العلمي، وتمتلك قوة الحجية أو الإثبات بما تحويه من بيانات تحدد المسؤولية، أو أن تكون مسجلة في الدوائر المختصة، وقد أصبحت تشتمل على الوثائق المكتوبة والمسموعة والمرئية، فضلاً عن الرسومات والخرائط.. وما إلى ذلك.
وهذا القياس يُمكن أن يتفق مع الأفلام التسجيلية الحية للمؤتمرات أو الاكتشافات العلمية أو الوقائع السياسية أو الاتفاقيات الدولية أو المعارك الحقيقية، أو الأحداث الطبيعية أو الرحلات الاستكشافية.. وما إلى ذلك، وهذا جميعه بشخوصه الحقيقيين وفي الأماكن الأصلية وأزمنتها الآنية، وفي هذه الحالة ترتقي هذه الأفلام إلى مصاف الوثائق.
ومع ذلك فإنه لا يُمكن إغفال قيمة الأفلام التوثيقية عن الحربين العالميتين الأولى والثانية، كما لا يُمكن إغفال أن بعضها يحمل من الرؤى التي جنحت في بعضها لصالح القوى المنتصرة، اتساقاً مع عدم إمكانية التخلي عن الذاتية مهما تعاظمت الموضوعية، وهناك أفلام السرد التاريخية التي تعتمد على نشر الوثائق، ومنها عن الدولة العثمانية مثلاً، فلا يُمكن تجاهل إمكانية حدوث الانتقائية فيها.
وأعتقد أنه في ضوء هذه الإشارات والأمثلة السابقة، يُمكن تقديم تاريخ شامل يجمع بين النص المقروء والمشاهد والمسموع، وما هو أكثر من ذلك في معايشة أجواء الحياة الاجتماعية والإمكانات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية.. وغيرها في إطار كلي، ولكن في هذه الحالة لا بد من الاستعانة بمؤرخين كمراجعين تاريخيين أو بمثابة الهيئة العلمية الاستشارية لهذه الأعمال الفنية، وفي إطار منظومة فنية وعلمية متكاملة.
ومع ذلك فإن هذا جميعه يتم إخضاعه للرصد والنقد والتحليل، شأنه شأن الوثائق والمراجع، لأنه مع التقدم العصري من الممكن إحداث دبلجة أو منتجة أو تركيبات فوتوشوب تجميلية أو تحسينية، وبالتالي لا يُمكن أخذ كل محتواه على أنه معلومات مُسلم بها دون تمحيص أو تحقيق حتى لو كان تسجيلاً حياً بما له وما عليه.
وعلى الرغم من أن بعض هذه الأدوات أو الآليات قد يتفرد أو ينفرد برصد أو ذكر معلومات أو حقائق تاريخية؛ فإنه لا يُمكن أن تكون في مجملها بدائل تنفي كل منها الأخرى، وإنما العكس صحيح، فتكرار المادة المصدرية في أكثر من أداة، يُرجح أو يُؤكد المعلومة ويزيدها توثيقاً، وعلى هذا الأساس فجميعها يكمل بعضه بعضاً.
ومع ذلك فإنه لا يُمكن إحلال أي من هذه المواد المعرفية بدائل عن بعضها البعض، أو ينفي أي منها الآخر، وإنما يكمل بعضها بعضاً، ومن ثم تكون الإجابة المنطقية لأول وهلة أنه لا يمكن للفيلم الوثائقي أن يكون بديلاً عن الكتاب بمعناه التقليدي الورقي المعروف وصولاً إلى الكتاب المقروء أو المرئي.

 

pantoprazol 60mg oforsendelse.site pantoprazol iv
ذو صلة