مجلة شهرية - العدد (582)  | مارس 2025 م- رمضان 1446 هـ

الفيلم الوثائقي وعلاقته بالتاريخ

 

من كان منا ليسمع عن سيكستو رودريغز، وهو مغنّ شعبي أمريكي قرر التوقف عن الموسيقى والغناء بعد فشل ألبوماته في السبعينات من القرن الماضي، قبل أن يحكي لنا عنه المخرج الراحل مالك بن جلول في فيلمه الوثائقي الفائز بالأوسكار (البحث عن رجل السكر)، وكيف أن هذا المغني حققت ألبوماته شهرة واسعة في جنوب أفريقيا وبعد أن ذاعت شهرته هناك حققت ألبوماته مبيعات ضخمة في أمريكا، ولكن لم يكن أحد يعرف عنه شيئاً، ولا أين اختفي هذا المغني، وظن الكثيرون أنه انتحر، وهو نفسه لم يكن يعرف بالنجاحات التي حققتها أغانيه، وهو ما وثقه الفيلم بعد مرور أكثر من 30 عاماً على توقفه عن الغناء.
خطر في بالي هذا المثال، وكيف أن فيلماً وثائقياً نجح في حفظ هذا التاريخ، الذي قد لا يبدو للبعض مهماً، لكنه في حال أردنا توثيق تاريخ الفن والموسيقى في بلد مثل أمريكا، فإن المخرج استطاع الوصول إلى مغن ربما كان سيتجاهله المدونون بالكتابة، وهذا ليس تقليلاً من الكتابة، ولكن تأكيداً على الدور المتبادل والمتكامل بين الصورة والكتابة، ومع الصوت أيضاً، (مرئي ومسموع ومقروء).
هذا يقودنا إلى أن الفيلم الوثائقي بكافة أشكاله وأنواعه إنما هو وثيقة لمرحلة ما، حتى لو قدم المخرج في فيلمه وجهة نظره، فإنها تصبح وثيقة تعبر عن رأيه في الموضوع الذي عمل عليه.
والصورة اليوم حاضرة بكافة الأدوات، ولم تعد تقتصر على الكاميرات الاحترافية، وإنما صار يمكن التوثيق بكاميرا الموبايل، وهذا يفرض علينا التعامل بصدق، وأمانة مع هذه المواد عند التعامل معها، واستخدامها في الفيلم الوثائقي، فعلى المخرج أن يكون حريصاً على نقله، وليس بالضرورة هنا افتراض أن الوثائقي أصدق من التدوين الكتابي، حتى الصور واللقطات يمكن التلاعب بها اليوم بفضل التقنيات المتقدمة والمونتاج.
الميزة الأساسية في الأفلام تكمن في الأثر الذي تحدثه الصورة، هذه الصورة التي تنقل لنا الحدث بكافة أبعاده ومستوياته.. ولعل الصرخة الشهيرة (بن علي هرب) بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي في تونس، للمحامي عبدالناصر العويني تقدم دليلاً ملموساً وعشناه حول كيف تصبح مثل هذه اللحظات تاريخية لا تُنسى وجزءاً من تاريخ المنطقة، وستراها الأجيال القادمة بأم عينها، كما شاهدنا نحن الكثير من أحداث تاريخنا منذ اختراع الكاميرا قبل أكثر من مئة عام، بل وحتى الصور الثابتة منذ اختراع الكاميرا الفوتوغرافية، طبعاً وفي هذا السياق لا بد أن يحضرنا أن التوثيق بالرسم والنحت كان حاضراً في تاريخ البشرية..
بالنسبة لي يظل السؤال المهم في مدى صدق الفيلم الوثائقي وأمانته، والخوف ليس فقط من كيفية التلاعب باللقطات والصور في المونتاج لتغيير الحقيقة، ولكن الخشية تكمن في أن يفرض علينا التطور التقني الكبير في أدوات صناعة الأفلام، الانسياق وراء الإبهار البصري، على حساب القصة والموضوع، وعلى حساب اللحظة نفسها الأمر الذي قد يؤدي إلى تجزئة الواقع الحالي، أو الانتقاء منه، فيصل للأجيال المقبلة ناقصاً ومزيفاً، فالخضوع لمعايير الكاميرا وعدساتها، أي الآلية نفسها، قد يدفع إلى الاهتمام بجمال الصورة الذي كونته الكاميرا مهما كان الواقع الذي تنقله مليئاً بالبؤس والشقاء..
أتذكر قبل عدة سنوات، أني شاهدت فيلماً عن (الأردن)، وكان يفترض به بحسب صانعيه، أن ينقل واقع البلد كما هو، بسلبياته وإيجابياته، وتفاصيل الحياة الجميلة فيه، والبائسة، لكنني يومها وبعد الانتهاء من مشاهدته، قلت للمخرج (هل هذه هي الأردن؟.. إذا كانت كذلك فأنا أتمنى العيش فيها) على الرغم من أنني كنت حينها من المقيمين في عمّان، إذ كان الفيلم مليئاً بالحياة والجمال بعيداً عن هموم الناس ومشاكلهم في البلد.
أتفهم أن يتم عمل فيلم للترويج للبلد سياحياً، بل وأن يكون هدفه محاولة نقل التفاصيل الجميلة فيه، ولكن دون التقديم لهذا الفيلم على أنه يقدم الواقع كما هو.
لذا الحقيقة في الفيلم الوثائقي مثل الكتابة تخضع أيضاً للأمانة في نقل وتوثيق وحفظ هذا التاريخ، وإن كانت هذه الحقيقة (مشتبه بها وملتبسة ونسبية) فكما يقول المخرج عمر أميرلاي فيجب أن (يُخضعها الوعي الإنساني والتاريخ لقانون محاسبة ما).
أي أن الفيلم الوثائقي مسؤول أيضاً عن مراجعة هذا الواقع، الذي سيصبح تاريخاً، وأن يبحث فيه بدقة، مثيراً الشكوك والتساؤلات وعدم التسليم بأحداثه كأنها مسلمات، وهنا سيتجاوز وظيفته من الاكتفاء بالنقل والتوثيق إلى الغوص عميقاً في نقل أثر هذا الواقع على من قد لا تتاح لهم الفرصة للمشاركة في التدوين الكتابي، أو قد ينساهم المدون بالقلم، بل وأيضاً هي وظيفة مهمة إذا استطاع الفيلم الوصول إلى الناس الذين لا يجدون طريقهم للتعبير، خصوصاً من طبقات قد تتجاهلها النخب الاجتماعية والسياسية والفكرية وحتى الثفافية وقد ينساهم التاريخ.

 

ذو صلة