مجلة شهرية - العدد (582)  | مارس 2025 م- رمضان 1446 هـ

الفيلم الوثائقي بين الشهادة والانحياز

 

كأحد نوافذ المتعة تعامل المشاهد مع السينما، حيث صاحبت العروض السينمائية احتفالات وبهجة، وحرص من فئات متعددة على حضور الجديد، وعلى الرغم من البداية التسجيلية للسينما، إلا أن الشكل الروائي هو الأكثر شهرة وانتشاراً لعقود طويلة.
ظلت المعرفة الإنسانية تتطور بشكل يبدو معقولاً وفي فترات زمنية طويلة، إلا أنه ومنذ منتصف القرن العشرين، أخذت المعرفة تتضاعف، ما أسهم في ظهور ما اُصطلح على تسميته بثورة المعلومات. هذا التطور المعرفي وازاه تطور تكنولوجي وتقني، وخلال كل ذلك تمضي السينما في خطها الروائي الأكثر امتاعاً للجماهير وفي هدوء تتم صناعة الفيلم الوثائقي أو التسجيلي.
في أواسط القرن العشرين وتحديداً في العام 1948 قام الاتحاد الدولي للأفلام التسجيلية بإعادة تعريف مصطلح الفيلم التسجيلي بأنه (كافة أساليب التسجيل على فيلم لأي مظهر للحقيقة يتم عرضه إما بوسائل التصوير المباشر أو بإعادة بنائه بصدق وعند الضرورة. وذلك لحفز المشاهد إلى عمل شيء أو لتوسيع مدارك المعرفة والفهم الإنسانية أو لوضع حلول واقعية لمختلف المشاكل في عالم الاقتصاد أو الثقافة أو العلاقات الإنسانية. وهو نوع من الأفلام غير الروائية التي لا تعتمد على القصة والخيال، بل يتخذ مادته من الواقع سواء أكان ذلك بنقل الأحداث مباشرة كما جرت في الواقع، أم عن طريقة إعادة تكوين وتعديل هذا الواقع بشكل قريب من الحقيقة الواقعية).
واستمر النقاد في سعيهم لإيجاد تعريف يقارب الواقع في توضيح ماهية الفيلم الوثائقي فجاء في (معجم الفن السينمائي) تأليف أحمد كامل ودكتور مجدي وهبة، الطبعة الأولى الصادرة عام: 1973 (يعرف الفيلم الوثائقي بأنه «المعالجة الخلاقة للواقع»، فالدراما في الفيلم الوثائقي، هي: عملية اكتشاف وتبنيط، بينما تكون الدراما في الفيلم الروائي معدة مسبقاً من قبل الكاتب ثم تصل إلى الذروة، وصولاً إلى الحل).
كما عرف «ريتشارد ماكان» الفيلم الوثائقي: (إن أصالة الفيلم الوثائقي وقيمته، لا تنبع من اعتماده على مادة من الواقع فقط، بقدر ما ترجع إلى أصالة وتوثيق هذه المادة الواقعية، بمعنى أن الوثيقة هي الأهم عندما تعبر بصدق عن الواقع).
وعبر مراحل تطوره أصبح الفيلم الوثائقي ينقل وجهات نظر متعددة، ويُعنى بموضوعات مختلفة، لعل من أهمها الموضوعات التاريخية.
فالتطور المعرفي وثورة المعلومات أفرزت كميات هائلة من المعلومات التي بات من الصعب ملاحقتها، هنا يخرج الفيلم الوثائقي ليقدم حالة مختلفة أكثر إمتاعاً من مجرد الرصد وتسجيل الواقع.
الفيلم التاريخي بين الوثيقة والانحياز
في أعقاب الحرب العالمية كانت هناك حمى أيدلوجية فسعى السوفييت لتقديم أفلام وثائقية موجهة تهدف للتعريف بالشيوعية ونشرها، وانغمست كل منطقة في العالم في صناعة أفلام منحازة بالأساس، تختار من التاريخ والواقع ما يخدم خططها، فأمريكا اللاتينية صنعت أفلاماً تهاجم الرأسمالية، وفي أمريكا الشمالية كانت الرأسمالية والديمقراطية هي السائدة. هذه الأفلام تطرح سؤالاً بالغ الأهمية هل يمكن أن ينحاز التاريخ؟ ومن ثم يمكن أن تنحاز الأفلام لتقدم وجهة نظر غير موضوعية؟
بشكل مبدئي وقبل أن نُجيب عن سؤال الانحياز علينا أن نتعرف عن قرب على طرق الإعداد للفيلم الوثائقي، فالأمر لا يقتصر على تسجيل الواقع فقط، بل في مرحلة التحضير يقوم باحث بإعداد بحث عن موضوع الفيلم، جمع المعلومات، تلك المرحلة الأشبه بالإعداد لمخطط علمي. تأتي المرحلة التالية بعد إعداد البحث وهي مرحلة بحيث صار كل فيلم أياً كان محتواه هو وثيقة معرفية بصرية، فأفلام الاكتشافات والمغامرات تكشف عن مناطق فائقة المتعة والإثارة لمن لا يمكنه زيارتها.
ومع تقادم ظهور شاشات الفضائيات أصبحت كل منها تضع قواعد لصناعة الفيلم الوثائقي الذي يقدم عبرها فيما يُعرف ب style book، لعل أبرز هذه القواعد ما وضعته قنوات الـ BBC وكذلك شاشات الجزيرة.
هذه القواعد صارت تتحرى الدقة فيما تقدمه من معلومات، وتتبع خطوطاً إنسانية بحيث حولت المعرفة من مجرد معلومات إلى خطوط معرفية من لحم ودم، ما أمد الفيلم الوثائقي بروح ساهمت في زيادة حالة المتعة التي توازي فعل المشاهدة.
الفيلم الوثائقي كوثيقة مرئية
ذكرنا سابقاً أن الفيلم الوثائقي يعتمد في الإعداد له على إعداد بحث، هذا البحث لا يوفر المعلومات فقط عن الموضوع بل يقترح أيضاً المواد الأرشيفية التي سيتم الاستعانة بها، ومواقع التصوير، وكذلك الضيوف من المتخصصين الذين سيظهرون عبر الشاشة ليتحدثوا عن الموضوع.
في فيلم (محمد علي باشا) الذي أنتجته شاشة الجزيرة الوثائقية وأخرجه المخرج رضا فايز، نجد الفيلم يتتبع الموضوع تاريخياً، عبر سرد تاريخي (تعليق) مشفوع بمشاهد تمثيلية بالإضافة إلى ضيوف متخصصين، كما توجه صناع الفيلم إلى الأماكن الحقيقية للأحداث مثل قونيا وتركيا، هنا يمكن أن نقدم الفيلم بمثابة وثيقة بصرية عن محمد علي تحكي عن تاريخه في إيجاز، فالوثيقة البصرية هنا لديها قواعدها أولها زمن المشاهدة المحدد بساعة تليفزيونية، والفيلم قد جاء في ساعتين مقسم إلى جزأين، إلا أن المعالجة توقفت على إبراز الحوادث الكبرى.
فالوثيقة هنا تنظر إلى التفاصيل الكبرى والحوادث الأكثر شيوعاً، ومن ثم هي وثيقة تصلح للتعريف بالموضوع، وليس لإيراد معلومات وافية عن الحدث.
وعلى أهمية ما يقدمه الفيلم الوثائقي من معرفة مرئية إلا أن الانحياز الذي لا يُمكن أن نغفله، وكذلك زمن المشاهدة، تجعل تحري الدقة ضرورة لمن يرغب في الاستزادة المعرفية في موضوع الفيلم، فهي وثيقة تصلح كمقدمة تشويقية، تمد بالمعلومات لكن لا يمكن الاعتماد عليها فقط، ولا يمكنها أن تغني عن المراجع والكتب والمخطوطات التاريخية.

 

ذو صلة