مع لحظات الإدراك الأولى للإنسان بوجوده الاجتماعي وبأنه كائن فان غير مخلد سعى أن يخلد نفسه كذكرى.. فعمل على نقل وتوثيق بيئته وعلاقاته ووجوده ومعتقداته وأهم الأحداث ليصنع منها تاريخاً يخلد فيه الحدث وشخوصه..
هذا التخليد عبر عنه منذ القدم بتطور لغة التواصل من رموز وكتابة ورسم وغيرها.. والتي تطورت فيما بعد لتأخذ أشكال الفنون المختلفة، والتي يمكن أن نصنفها إلى:
- فنون تعبيرية أي تعتمد على الوصف التعبيري بالكلام والصوت كفنون الشعر والغناء وفنون الكتابة المختلفة من رواية وقصة ومقامات ومقالات ومصنفات وصحف وإذاعة.
- يوازي ذلك فنون بصرية أي تعتمد على الوصف البصري كفنون الرقص والرسم والنحت والتمثيل والمسرح والتصوير الفوتوغرافي والسينما والتلفزيون.
هذا التوازي لا يشكل علاقة تناقض، بل كان في أحيان كثيرة علاقة تكامل كعلاقة الشعر بأداء الشاعر، وعلاقة الغناء بالرقص، وعلاقة المسرح بالكتابة، وعلاقة الرسم بمصنفات التاريخ، وعلاقة الصورة الفوتوغرافية بالصحافة المكتوبة.
ولكن هناك فنوناً تراجعت لحساب فنون أخرى طغت عليها، فمثلاً فن النحت لم يعد في يومنا ذا شعبية.. ويصح ذلك على فنون أخرى كأنواع من الشعر والكتابة مثلاً.
في مقابل ذلك، زاد الاهتمام بالتصوير الفوتوغرافي، والفيلم الوثائقي، و(الصورة الحية)، والنقل المباشر للأحداث مع التطور التقني لعمليات التوثيق والرصد المعتمدة على الصورة.
وأمام هذا التطور، وانتشاره الواسع مع إمكانية وصول هذه التقنية، وتوفرها لكل فرد في المجتمع وسهولة الاستخدام والنشر، هل بقي مكان للرصد والتوثيق الكتابي للتاريخ الحديث؟
من المهم ملاحظة أن الكتاب نموذج بارز للفنون التعبيرية التوثيقية، الفيلم الوثائقي نموذج للفنون البصرية التوثيقية، ويمكن تلخيص ذلك في ثلاث نقاط.
والنقطة الأولى التي يجب أن نقف عندها أن لكل من الكتاب والفيلم الوثائقي مميزات مستقلة بذاتها، فالكاتب يصف لحظة معينة أو حدثاً معيناً يستخدم الكلمات (أدوات صناعته) في تشكيل صورة ذهنية لدى القارئ، استناداً إلى الخيال لتكوين هذه الصورة.. بينما صانع الفيلم الوثائقي يستخدم لقطات الكاميرا المدروسة (حروفه التي يروي فيها قصته) ويعيد صياغة الموضوع بمعالجة مؤثرة يعكسها في النقلات والجو العام للفيلم وإيقاعه من خلال المونتاج والموسيقى.. كل هذا ليصف ويخلد الحدث من وجهة نظر المخرج ويقلل من خيال المشاهد.
والنقطة الثانية مقدار المصداقية لكل منهما، وهو ما يثار كثيراً في حوارات على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، فالكثير يعتبر أن الصورة مصداقيتها عالية جداً لدرجة اعتبارها دليلاً واضحاً لا شك فيه، ما يجعل الكتاب يتراجع في هذا الجانب مفسحاً المجال للفيلم الوثائقي، أو بالأصح للرصد، والتوثيق البصري ليتقدم عليه.
ورغم انحيازي للصورة بشكل كبير إلا أن ادعاء المصداقية ليس دقيقاً وغير مسلم به، فالصورة مثلاً كثيراً ما يساء استخدامها في التوثيق سواء في تزوير حقائق، وأحداث، أو في تغيير ترتيب الأحداث ومجرياتها، أو في تقديم صورة معينة دون غيرها، أو في اختيار جزء منها.
الصورة -من وجهة نظري- أكثر تأثيراً وفعالية في توصيل الرسالة أو المعلومة، ولكن ليس بدقة ومصداقية مطلقة.. وهذا لا يعني أيضاً أن الكتاب يتفوق عليها بالمصداقية، فما تعانيه الصورة من سوء استخدام لا تسلم منه الكتابة أيضاً، وهذا يجعل مبدأ المصداقية لا يعتمد على طبيعة الفن، أو شكل المحتوى المقدم بقدر ما يرجع لمنهجية التفكير لدى المتلقي في قدرته على التمييز، والحكم في أصل المحتوى، وهو ما يشكل حالياً هماً عالمياً في تكوين منهجيات للتحقق، ومدى المصداقية في المحتوى المقدم.
والنقطة الثالثة أن العلاقة بين الفيلم الوثائقي وبين الكتاب ليست علاقة تعارض بل ممكن اعتبارها علاقة تكاملية في التوثيق، فكثيراً ما استفاد الفيلم الوثائقي على سبيل المثال من الكتاب سواء في إعداد المحتوى الموضوعي للفيلم أو في البحث عن مصادر مختلفة أو آراء ناقدة.
وحتى في الجانب البصري نجد أن الفيلم يعتمد على الوثائق التي تضمنتها المصنفات التاريخية، كما يعتمد على الوصف للأماكن وللشخصيات والتي تمكن صانع الفيلم من تطوير رؤيته الفنية ويعمق المعالجة البصرية.. فاستمرار وجود الكتاب هو داعم للفيلم الوثائقي وللرصد والتوثيق البصري.
يبقى هنا أن التساؤل في مدى صلاحية بقاء، أو إمكانية استمرار الكتابة ليس مرتبطاً بتطور أو انتشار الفيلم الوثائقي، بل هو مرتبط بالتطور المتسارع في التقنيات، والقفزات المتتالية في عوالم الاتصال، وهذا الخطر ليس محصوراً في الكتابة، بل يتعداه لكل الفنون الأخرى، فعلى سبيل المثال التلفزيون يواجه خطراً حقيقياً في جدوى استمراره بشكله الحالي.
من جانب آخر الفن الذي يستطيع الاستمرار هو الذي يستطيع أن يتطور بموازاة التطور التقني الحديث في وسائل الاتصال والمعلومات، وبكلمات أخرى فأي فن لن يسير مع التطور سيكون جزءاً من الماضي مهما كان نوعه أو أهميته الحالية.
تاريخياً نجحت العديد من الفنون بالاستفادة من التطورات سواء الاقتصادية أو العلمية المختلفة.. بل ووجدت فنوناً كاستجابة لهذا التطور، ومن ذلك الفنون البصرية، إذ نجد أن الفيلم الوثائقي قد ظهر مع اختراع آلة التصوير الفيلمي مع نهايات القرن التاسع عشر، فمنذ الفيلم الأول (المصنع) تبين أن فن السينما قد ولد وثائقياً يوثق ويرصد الحدث بالصورة المتحركة وبطريقة مختلفة لم تشهده البشرية من قبل.
ويلاحظ أن الفيلم الوثائقي لم يتوقف مع البدايات، بل رافق وتطور بتطور تقنيات التصوير والصوت فظهر الفيلم الوثائقي بأنواعه ومدارسه وتياراته المختلفة وأقيم له مهرجاناته الخاصة وأصبح له قنواته المتخصصة، كما استفاد كثيراً في انتشاره من التلفزيون -رغم كونه سينمائي المولد- فأصبح أكثر (شعبوية) رغم احتفاظه (بنخبويته).
في موضوع الكتابة أيضاً نجد أنها استفادت تاريخياً من تطور مهم جداً وهو الطباعة.. هذا التطور ساعد على نشر الكتاب من حيث كميات التداول وجودة المنتج وإمكانية الوصول للقارئ وانخفاض التكلفة، ولكن من جانب آخر كان هناك أثر سلبي على حساب فن النسخ والخط وتأثر بسببها فئة كاملة من الوظائف التي عرفت بـ(النساخون).
ورغم ذلك، ما تغير هو شكل الفن وليس مضمونه، فالكتاب المخطوط أصبح كتاباً مطبوعاً فقط، فلم لا يكون كتاباً إلكترونياً ينتشر أكثر وبتكلفة أقل من الطباعة.
الخطر الحقيقي -من وجهة نظري- ليس في التقنية والتطور بقدر ما هو في تغير مزاج وسلوك الإنسان وفكره ومدى قبوله أو رضاه أو قناعته بجدوى استخدام الكتاب في التوثيق.. وهذا يتطلب التطور في أسلوب الكتابة وطريقة عرضها وتدعيمها بالصورة واللقطات الحية.. وهو فعلاً ما بدأ يظهر في الفترات الأخيرة بدمج النصوص الكتابية بلقطات الفيلم عبر ما يعرف Info Graphics وسبقه المجلات الإلكترونية العديدة والصحف العالمية التي انتقلت من عالم المطبوع إلى العالم الافتراضي.. كل هذا قد يكون فرصة جديدة لفنون الكتابة، ولكن هذه الفرصة ستضيع أمام جهل المصنفين بخصائص القراء الجدد.. خصائص مستمدة من طبيعة العالم الافتراضي من حيث السرعة والاختصار ومستوى الاطلاع ونوعية الموضوعات والبحث عن الجديد والتغير المستمر.