يُختزل العالم اليوم في صورة واحدة، قادرة على تحريك الرأي العام، وإحداث جدل قد يتطور إلى اضطرابات، وفي المقابل.. فإن ذات الصورة، قد يحتاج الكاتب إلى مئات، أو آلاف الكلمات كي يستطيع التعبير عنها بالدقة المطلوبة.
أحدثت الصور، الثابتة منها، والمتحركة، بعض التحولات في الواقع الراهن، تسببت في نشوب معارك، وسقوط دول، واحتجاجات، وفوضى، ذلك أن الكثير ينظر إلى الصورة باعتبار أنها وثيقة لا يمكن إنكارها، رغم أنها، حال المدون في التاريخ، قابلة للتشكيك بها، بل وحتى نقضها.
تقوم الصورة اليوم، وبفعل تطور التكنولوجيا، بدور واسع في رصد ومتابعة الوقائع، إلى جانب توثيقها لأحداث ومحطات من التاريخ الماضي، الذي يعاد صياغته وتشكيله ضمن رؤية فنية، يمكن لها أن تقدم تاريخاً مبتوراً، أو توجه التاريخ في سياق تأثير الأيديولوجيا، أو تحيز فريق العمل، ويمكن أن تقدم تاريخاً موضوعياً، استناداً إلى بحث علمي رصين.
ورغم ذلك، لا يستطيع الفيلم الوثائقي، وحتى السلسلة الوثائقية، أن تحوي كل التفاصيل، ودقائق الأحداث في الحقب التاريخية السابقة، وإنما يقوم فريق العمل بمعالجة فنية ضمن سياق تحريري للأحداث، أو الحدث، وفي المقابل، فإن المؤرخ، يستطيع أن يسهب، ويتتبع التفاصيل، ودقائق الأمور، فيما يكتب، إلا أن هذه الشمولية التي تضمها دفتا الكتاب لم تعد سلعة رائجة مقابل المواد البصرية المسموعة، التي يتناسب إنتاجها وإيقاع العصر القائم على السرعة، فالحرب العالمية الثانية يمكنك أن تحيط بها فهماً من خلال فيلم وثائقي في ساعة أو ساعتين، ولا حاجة مثلاً إلى الموسوعات والمصنفات الورقية!
وما بين التدوين المكتوب، والفيلم الوثائقي، يمكن أن نلتمس أثر الصورة، وجاذبيتها، وقدرتها على إدخال المشاهد، في حالة من التفاعل، والتعايش، مع حدث انتهى، قبل عقود، فالصورة تشكل لدى المتلقي، آلية التفكير، بل وتعيد صياغة وعيه، أو جزء منه، أو التأثير به، ولو بالحد الأدنى، في ضوء سطوتها، وتجاوزها للكلمة، والموسيقى، والمؤثرات الصوتية، والدراما، وهو ما لا يستطيع الكتاب فعله، رغم أن الأخير يعد جزءاً من عمليات إنتاج التلفزيون، ومن ذلك الفيلم الوثائقي، فهو في نهاية المطاف مصدر معلومات.
وإن خرجنا من نطاق الفيلم الوثائقي، الذي سيتحول مع تقادم الزمن إلى وثيقة للأجيال المقبلة، وذهبنا إلى (رقمنة التاريخ)، فإن تطويع التقنية، في خدمة عملية التوثيق، أسهم في إطلاق مشروع (التاريخ الشفوي)، الذي يتقصى فيه فريق العمل، رواية شهود العيان، لأحداث مرت في الماضي، وهي تجربة عمل بدأت من جامعة كولومبيا عام 1948م، عندما سجلت الأشرطة شهادات مجموعة من الشخصيات الأمريكية على أحداث ووقائع في التاريخ المعاصر للولايات المتحدة آنذاك.
أحدث ظهور (التاريخ الشفوي)، الذي تم تسجيله بالصوت، والكاميرا، جدلاً واسعا حول (التاريخ النصي) مقابل (الشفهي) الذي يسجل تقنياً، إذ نظر بعض المؤرخين إلى الصنف الأخير، باعتباره فناً شعبياً، وليس تأريخاً يمكن الأخذ به.
وبعيداً عن ذلك الجدل، فإن العرب، ومنهم الفلسطينيون، أنجزوا في هذا الجانب، عدة مشاريع لـ(رقمنة التاريخ الشفوي)، وفي الحالة الفلسطينية، فقد تم تسجيل آلاف الساعات المصورة بالفيديو خلال العقدين الأخيرين لشهادات الجيل الأول لنكبة عام 1948م، ممن شاهد، وعايش أحداث تلك الفترة، ذاكراً وقائع الحرب، وما قبلها، وكيف كان يعيش السكان، وأسماء قراهم، ومدنهم، وبواديهم، والهدف من ذلك، الحفاظ على هذه الذاكرة، التي كان يمكن أن تمحى، بعد موت هذا الجيل، الذي رحل أغلبهم اليوم عن هذه الحياة.
(التاريخ الشفوي)، والأفلام الوثائقية، والتغطيات الإعلامية من تقارير ومقابلات، كلها تشكل ذاكرة رقمية مهمة، لأنها تحفظ أحداث ووقائع، أصبح من الصعب تدوينها كتابياً اليوم، ولاسيما مع تراجع سوق الكتاب.. وهنا بالتحديد، تبرز أهمية وقيمة الصورة وسطوتها في صناعة التاريخ المرئي لعالم رقمي.